أقل ما يمكن أن نقوله عن البورتريهات الضبابية التي ينجزها الفنان العراقي حليم الكريم (1963) هو أنها تبلبلنا وتثير فضولنا في آن. عند الوهلة الأولى، نظن أنها لوحات مرسومة بأقلام الفحم أو بمادة الباستيل، قبل أن يتبيّن لنا أنها صور فوتوغرافية.
في هذه الاعمال، تظهر وجوهٌ وقامات بشرية، خصوصاً نسائية، متحللة داخل الضباب، وكأنها في حالة امحّاء، مثل الذكريات التي تتلاشى. رغم ظاهرها البعيد، تبدو وكأنها تتفرّس في المتأمّل فيها، تمنحنا الانطباع بأنها تجهد بيأس في الإمساك بنظرنا. لتسليم رسالة؟ لعدم الوقوع في النسيان؟ في جميع الأحوال، نستشفّ الألم المشحونة به. ولا عجب في ذلك طالما أن العمل الذي يقوم به الفنان منذ بداية مساره مشبعٌ بفصول حياته المريرة في العراق.
منذ نعومة أظافره، اختبر الكريم العنف الذي عاشه أبناء وطنه خلال العقود الثلاثة الأخيرة، إن من خلال قمع نظام البعث، أو من خلال الحروب التي قادها هذا النظام. وللإفلات من الخدمة العسكرية الإجبارية، ومن حرب الخليج الأولى (ضد إيران)، فرّ إلى الصحراء وعاش بين البدو، بعد تحصيله شهادة "أكاديمية الفنون الجميلة" في بغداد.
هناك، سكن في حفرةٍ حفرها بيديه، سمح له سقفها المفتوح بتأمّل الأشكال والألوان المتحوّلة للغيوم والسماء، كما من خلال ثقب كاميرا. اختبار ربما يشكّل تجربته الفوتوغرافية الأولى.
بعد ذلك، أقام فترة قصيرة في عمّان، مارس خلالها الرسم والنحت، قبل أن يرحل إلى أمستردام ويتعلّم في أكاديمية "غيريت ريتفلد" (1996 ـ 2000) المبادئ التقنية والجمالية للصورة الفوتوغرافية، ويستعين بطاقاتها الإبداعية في مشروعه الفني المرتبط كلياً بسيرته الذاتية. ومنذ تلك الفترة، أصبح هذا الوسيط الكاشف الرئيسي لمشاغله الجمالية والوجودية.
"العمل الذي أقوم به هو استكشاف هويتي الخاصة، انفعالاتي المعاشة وتمثيلاتها التشكيلية"، يقول الكريم محاولاً تلخيص علاقته بالتصوير الفوتوغرافي الذي لا يرى فيه فناً هدفه استنساخ الواقع بدقة بقدر ما يرى فيه وسيلة تسمح له بمساءلة وتحليل وفهم جوهر الكائن وتعقيد العالم الذي يحيط به. وبالتالي، يجب النظر إلى عمله من زاوية التعرية التي تقابل الذاكرة المجروحة وتجربة المنفى بالرغبة في رفع القناع عن واقع يجرّدنا من إنسانيتنا.
عملٌ لا يتخلى الفنان فيه عن المراجع الأولى لثقافته، لكنه ينخرط، في تقنياته ونتائجه، ضمن حداثة أكيدة. وفي هذا السياق، نراه يعمل على النسخة السلبية من الصورة فيحكّها أو يلوّنها أو يرسم عليها بهدف تجسيد الطبقات المختلفة للزمن.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الكريم يؤمن بقدرة الإنسان على سكن زمنيات مختلفة في آنٍ واحد. قدرة اكتشفها خلال الحرب، وقادته إلى الانقلاب داخل زمنية أخرى، شكّلت منفذاً للإفلات من القلق والخوف.
واليوم، حين نزور معرضه في "غاليري إيمان فارس" الباريسية، نشاهد أعمالاً لا تشبه كثيراً أعماله السابقة. صورٌ لا تنبثق من برنامج جمالي محدد سلفاً، بل تبتكر قواعدها الخاصة ضمن استقلالية، وأحياناً عزلة، لا تضاهيهما سوى الحرية التي تنمّ هذه الصور عنها. حرّية اكتسبها الفنان بعد تيهٍ وعذاباتٍ وعملٍ دؤوب، وبعد أن فرغ من وضع قوانين ووسائل بحثه الفني الخاص.
فبعد أن درس في صوره السابقة شفافية الألوان النيّرة، ها هو اليوم يختبر شفافية الأبيض والرمادي، مستعيناً، مرةً أخرى، بجسد المرأة، حليفته الثابتة، التي تتجلّى لنا كما لو أنها تنبثق من ماءٍ أو من نور. قامات أو وجوه شبحية تحتل بصمتٍ الإطار من الأعلى إلى الأسفل، وبلا حراك تبلبلنا، تفرض سلطتها علينا، وتسيّر موكباً من الأحلام والرغبات الدفينة فينا.