حماقات الغراب

08 يناير 2016
أحمد معلا/ سورية
+ الخط -

الشائع أن الغراب حاول أن يقلّد الهدهد. ثمة حكايات تدّعي أنه حاول أن يقلّد الطاووس، أو الحمامة، أو النسر، والمهم أن الطائر ارتكب حماقة التقليد التي جعلته ينسى مشيته، ويعجز عن المشي مثل الهدهد، أو الطاووس.

تشير الحكاية إلى مسألة الهوية من بعيد، وتختار الغراب، صاحب السمعة الذميمة، كي يمثل عجز التجربة المفتعلة عن خلق الهوية، أو تجديد وجودها. فأصالة النسر أو الهدهد، تنتمي إلى تاريخ عيني مجرب ومعروف، أو إلى جملة معطيات ووقائع. بينما يحاول الغراب أن يبني فلسفة وجود مصطنع قائمة على اختراع الهوية.

يشبه الأمر ما يسعى إليه ناشطون سوريون يلهثون وراء مؤتمرات الهويات الطائفية، أو المذهبية. يستسلم عدد من المثقفين لمقولات الجماعات الصغيرة، ومن بينهم كتاب وشعراء يتبنون مقولات الهويات الصغيرة، دون التفكير أنها تنتمي إلى اللحظات العابرة في التاريخ. وأغلب هذه الهويات يسعى إلى استبدال المواطنة، أو الانتماء الوطني، بالطائفة، أو المذهب.

واللافت في أمر هذه الخيارات، هو أنها حين تسعى إلى مناصرة القول بضمان الحقوق الأقلوية، والطائفية، والمذهبية؛ فإنها تستتبع انزلاقاً نحو المواجهة، والتأكيد على الخصوصيات الهامشية، في مواجهة المشتركات التأسيسية الكبرى التي تشكل قيم المواطنة والاجتماع.

ولكن ما الخاص الذي يمكن اكتشافه في الهويات الصغيرة كي يتجرّأ دعاتها على عقد الندوات، والمؤتمرات، وتأسيس الأحزاب أو التيارات باسمها؟ حتى الآن، لا يقدّم دعاة الهوية الصغيرة سوى الخوف كمسوّغ وجودي لدعوات الانغلاق.

وتدعي الهويات الصغيرة التجانس، في مواجهة الهوية القومية أو الوطنية، دون أن يكون لدى أصحاب الدعوة أي رصيد ثقافي يحمي هذه الخصوصية، أو يظهرها كتراث، أو كحاضر، أو يرشِّح بقاءها في المستقبل. ولا تقدّم سوى القليل مما يسميه داريوش شايغان "معبودات الذاكرة".

هي خصوصيات كاذبة لا تحتوي على سوى "تجانس طائفي" يتصف بأنه إكراهي لا يأتي من الاختيار الحر لأي كائن، وهو يضع وجود الهوية في حالة دفاع دائم ضد عدو خارجي محتمل.

وأخطر ما يمكن أن ينجم عنها من وقائع، هو ميلها الغريزي للمواجهة مع الشركاء في المكان الواحد، وهو الوطن هنا، باعتبار أنهم "التهديد" الأقرب جغرافيا للوجود الهوياتي الطارئ المزيف، والجماعة المشتركة التي يخطط أصحاب الهويات الهامشية للانفكاك عنها.

ويسعى الدعاة إلى تجاهل التاريخ الثقافي والسياسي والاجتماعي البشري، فلا وجود للصراع الطبقي في الهوية الصغيرة، وعلى المنتسبين أن يتجاهلوا موضوعات السياسة والأنظمة السياسية، كما أن مسائل الفن والأدب وعلاقات الثقافة لا يسمح لها بالحضور في الأجندة الجديدة.

تطلق إحدى المقالات التي تتحدث عن الحلزون، اسم "طائفة" على هذه الجماعة التي تحشر نفسها داخل قوقعة من العظام الهشة خوفاً من أن تندمج في المحيط الكبير الذي يضمها. الطريف أن واحدة من أهم سمات هذه الطائفة المنغلقة قصر النظر حسب المقالة ذاتها.

وفيما لا يكسب الغراب من حماقة سرقة الهويات شيئاً، يتحرّك الحلزون بحسب ما تمليه عليه غريزة البقاء، بينما يتسلل المثقف إلى القوقعة الطائفية بحماقة الغراب، وروح الحلزون.


اقرأ أيضاً: بيدر الحسابات الأخيرة

المساهمون