الجنائيات هنا لهن ثقافة مختلفة.. فتاجرات المخدرات يتفاخرن فيما بينهن بمهنتهن.. لا يجدن فيها عيباً، فهن لسن كفتيات الآداب اللاتي بعن أنفسهن. أما المتورطات في قضايا قتل، فيختلقن المبررات التي دفعتهن إلى ذلك، يتعاملن مع الجميع بمنطق "لو خايفة يا حليتها على نفسك.. متكتريش معانا في الكلام"، يرين أن أيامهن على الأرض معدودة، فلا يفرْق معهن أحد، ولا يخشين أحداً.
أتذكر مشاجرة لي مع إحداهن، وكان السبب "أن ملابسي لا تعجبها، تريد أن أخلعها، فقط لكونها تتشاءم من الجلباب الأبيض! وعندما اعترضت بقولي "أنا حرة.. واللي عندك اعمليه".. قامت بكسر كوب الشاي الذي تحمله في يدها، وأمسكت بقطعة زجاجة تهددني بها قائلة "بقولك إيه.. إنتي جايه تنكدي عليّ هنا!.. أنا كده كده إعدام مش فارقة معايا.. يعني لما أجيب راسك نصّين الحكم واحد، مش هتعدم مرتين".
أما تاجرات المخدرات فهن ألطفهن معاملة مقارنة بالقاتلات، وأفضلهن خلقاً مقارنة بالآداب، فعلى الرغم من أن ممارسات هذا الجرم يتعرضن للحبس سنوات قد تصل إلى الحبس المؤبد، إلا أن ثمة علاقة بينهن وبين رؤوس الفساد من أصحاب المناصب السيادية تعطي لهن امتيازات داخل السجون تعوضهن عن حبسهن.
لو لم يكن الذهاب إلى الحمام ضرورة ملحة لاستغنيت عنه، خمس دقائق في حمام سجن القناطر كفيلة بأن تصيبك بالصداع النصفي، كان هناك جانب من الحمام يستخدم للتجميل، وجزء آخر خصص كملتقى اجتماعي لتبادل الأحاديث الفارغة التي لا تخلو من الغيبة والنميمة وروايات التحرش!
ويبدو أن الجنائيات قررن استثمار أوقاتهن في مشروع "كوافير حريمي.. صبغة ووشم وحمامات زيت وفرد شعر". وكانت لغة التبادل الخدمي بين المسجونات "بخرطوش السجاير".
لم نكن من زوار "الكوافير"، فما جئنا للتزين أو التباهي بأجسادنا، الأمر الذي جعل الجنائيات يبحثن عن لغة تعامل أخرى أكثر انتفاعاً، وبالفعل بدأت الجنائيات يتوافدن على الزنزانة لعرض ما لديهن من منتجات.
تتمسوا بالخير، أنا ببيع فطير لو عاوزين عرّفوني.. واسمي "فلانة".
بالصلاة ع النبي، أنا أم "فلان" وممكن أغسل المواعين لو احتجتوني.
السلام عليكم، إحنا بنبيع مفروشات وأشغال يدوية.
كانت أولى خطوات الاحتكاك المباشر مع الجنائيات، من خلال مسجونة تدعى "فرح"، كانت تقوم بغسل ملابسنا ثلاث مرات أسبوعياً، مقابل 50 جنيها شهرياً تودع باسمها في الكافيتريا، رحبت المعتقلات بعرضها، وكان للتعامل الجيد الفضل في استمرار العلاقة الطيبة بيننا وبينها، لدرجة جعلتها تختلس الدقائق للمكوث معنا للتنفيس عن مشاكلها.
الطريف أن المعتقلات قبلن بعروضها، بل أضفن لغة جديدة للتعامل، فوجدن في "اللبن والعصائر والفواكه"، بديلاً شرعياً ومناسباً عن السجاير.. وجاءت رود أفعال الجنائيات المبهرة.. أتذكر منها جملة لإحدى المسجونات حين قالت "عشنا وشوفنا الإخوان بيتعاملوا باللبن والبسكوت بدل السجاير.. انتو فاكرين نفسكم في مدرسة؟"، لم يخلُ الأمر من الانتقادات أحيانا، المسموعة وغير المسموعة، ولكن بعد مرور الوقت بدأ كل طرف يستوعب الآخر.
لا أحد بإمكانه إغفال دور الجنائيات في إيقاظنا يومياً، فأصواتهن الرنانة باستطاعتها إفاقة مريض العناية المركزة.
يبدأ صباح كل يوم بأن تنادي إحدى الجنائيات علينا للذهاب إلى "التلاجة الجماعية"، والتي تضم أكياسا مكتوب عليها أسماء الجنائيات لحفظ أطعمتهن المثلجة، ولفتح الثلاجة موعد محدد، ولا يجوز تبديل الطعام أو طلب المزيد بمجرد غلق الثلاجة، وقبل أن تمر العاشرة صباحاً يُمسح العنبر وتوزع الأغذية والخبز.
ولحفظ سلامتنا كنا نتخلص من التغذية الممرضة التي كانت توزعها إدارة السجون لنا أولاً بأول، ونعتمد على معونات أهالينا من خلال الزيارات، والتي كانت مصدر رفاهية للعنبر بأكمله.
السرائر تحجز حسب الأقدمية
العشرات من الجنائيات يفترشن أرضيات العنابر للنوم، ولعدم وجود مكان لمتر كاف للنوم قد ينام بعضهن في الحمام. في كل عنبر "جنائية نبطشية" مسؤولة عن المسجونات مسؤولية كاملة أمام إدارة السجن، لها احترامها وهيبتها، صوتها يعلو على صوت السجّانات، تحظى بامتيازات معتمدة من إدارة السجن، فلها حق إصدار قرار بدخول المسجونة حجرة التأديب والحبس الانفرادي، ولها أحقية "تشريد" المسجونات في العنابر ومعاقبتهن بالشكل الذي يروق لها.
"كبيرة النبطشيات في سجن القناطر" امرأة تدعى "ناصرة".. أو كما يطلق عليها المسجونات "يا أمي يا ناصرة" هي البطلة الأولى في سجن نساء القناطر، فهي الفلك الذي يدور حوله الجميع. أتذكر عندما توجهت إحدى المعتقلات لإبلاغ إدارة السجن عن معاملتها السيئة، جاء رد مفتش المباحث ممدوح بيه عليها: "ناصرة دي دراعي اليمين في السجن".
ناصرة.. امرأه حكم عليها بالمؤبد لتجارتها بالحشيش، في أواخر الثلاثينيات من العمر.. يومها يبدأ في السادسة صباحا كموظفة، مخصص لها "تخته" عليها سجلات بأسماء المسجونات وبياناتهن، لا أحد بإمكانه التحرك من المسجونات أو رئيسات النبطشيات إلا بعد موافقتها والاستئذان منها.
رغم شدتها في التعامل وتوبيخها للمسجونات، إلا أن لها القدرة على ضبط السجن. الأغذية يجب أن توزع في مواقيتها. لا تأتي إليها أي سجينة بشكوى إلا وأحاطتها بعين الاعتبار. تتعامل مع معتقلات الرأي بشكل مختلف، فلم تؤذنا بلفظ يهين كرامتنا كعادتها مع المسجونات.
أما مسؤولة نبطشية القسم السياسي في عنبرنا، فهي امرأه تُدعى "أمل" حكم عليها بالمؤبد، صوتها عال ولسانها علق به شوائب المجتمع الذي أقنعها بأن صناعة الهيبة لن تكون إلا باستخدام أقذر الشتائم.
الأختان هند ورشا منير، كانتا أول من يستفتحن سجن القناطر بعد ترحيلنا إليه خلال أحداث رمسيس الأولى عام 2013.
على جميع العنابر في موعد "التمام"، وهي ساعة انتصاف الليل بتوقيت السجون المصرية، أن يعتلي سريره، حتى ولو لم ينم، فقوانين السجن لا تخالف إلا في الحالات القصوى، ومنها شهر رمضان، ليصبح موعد التمام حتى طلوع الفجر للسماح لهن بمتابعة مسلسلات رمضان في التليفزيون الذي تم توفيره لهن.
كانت لنا ساعة "تريض" يسمح لنا فيها بالخروج إلى ساحة السجن يوميا بعد صلاة العصر، كانت هناك أوامر مشددة من إدارة السجن بفصل الجنائيات عن السياسيات، ووصل الأمر إلى الفصل في الحمامات، فتخصص لنا إحدى غرف الحمام لا يدخلها سوى "الإخوان"، وغرفة حمام "أفرنجي لوكس" لناصرة. رئيسات النبطشيات لا يحق لهن الدخول للاستحمام أو قضاء حاجتهن إلا إذا كانت مقربة منها، فضلاً عن 8 غرف حمامات تشطيب بلدي .."على متفرج" لعموم المسجونات.
الزيارات كل 15 يوما، ومن لم يصدر حكم قضائي بحقها، لها أحقية الزيارة كل أسبوع. قفص كبير.. تتم فيه مقابلة الأهالي، وقبل دخول الزيارة تقوم كوثر "امرأه التفتيش" بتمشيط أجسادنا بالتفتيش الذاتي المهين، ثم تدخل أخرى لتختم أيدينا بشعار الداخلية، إشارة إلى أن "فرصة زيارتك انتهت..."، مدة الزيارة الأصلية ربع ساعة، والفعلية من 5 إلى عشر دقائق، عدد الزائرين لا يتجاوز 3 أفراد.
كنا نحاول قدر المستطاع أن نتعرف إلى حال المعتقلات الأخريات في عنبر القسم السياسي الآخر الذي يضم عشرات الطالبات من جامعة الأزهر، ونتطلع إلى معرفة أخبارهن خلال ذهابنا إلى الكافتيريا التي تجمع بين كافة المسجونات.
في الثامنة من مساء كل خميس وثلاثاء، تأتي الفقرة التي ينتظرها عنبر التحقيقات، وهي فقرة "الرقص الشعبي"، والطريف أن إدارة السجن في الوقت الذي كانت تتشدد فيه معنا حينما كنا نطالب بإدخال راديو أو MP3، كانت تسمح فيه للجنائيات بإدخال "سماعات دي جي" لتشغيل أغان شعبية، فكان صوت الموسيقى والأغاني يملأ السجن ضجيجا، فلا تعرف حقاً هل أنت في سجن نساء القناطر أم في قاعة أفراح في شارع الهرم؟
(هوبا يلا/ عندنا إفراج إن شاء الله/ عنبر واحد هيييييه/ يعني التحقيق هيييييه هنقول اهو/ اهو اهو/ القاتلين هيييه/ البقعة الحمراء هيييه/ تجار سلاح هيييه/ والحشاشين هيييه/ دول أجدع ناس/ هنقول اهو/ اهو اهو/ والإخوان.. هيييه/ يعني الحرية.. دول ميه ميه والرابعاوية/ هنقول اهو اهو اهو).
المعاملة الحسنة لها قدرتها الفائفة على فك شفرات من تحادثه مهما بلغت درجة إيذائه، وكلمات تلك الأغنية تلخص تطور العلاقة بين السياسي والجنائي، والتي وصلت إلى حد خرقهن لقوانين إدارة السجن والتي كانت تجبر بعضهن على مراقبتنا والتجسس علينا، لنقل ما يدور من حوارات داخل غرفة الحبس السياسي.
تغيرت الأوضاع، وانقلب السحر على الساحر، عقب حادثة الاعتداء على المعتقلات وسحلهن أمام أعين السجينات بلا رأفة أو وجه حق، بحملة قادها مدير أمن مصلحة القناطر يوم التاسع من يونيو/حزيران 2014، والشهيرة إعلامياً بحادثة "اقتحام سجن القناطر".
وصدق الله تعالى في قوله: "ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ" ليصبح من يترصد لك اليوم هو حليف الغد، وهكذا مكر الله لنا في سجن القناطر، فتغيرت نظرة الجنائيات التي كانت ما بين مواقف كيدية أو نفعية، لتتحول إلى مواقف صادقة مخلصة لا نفاق فيها ولا مصالح، بشكل أربك إدارة السجن. وسنتحدث عن مظاهر ذلك في حينه.
ربما لأن الإنسان ذا طبيعة مركبة يحمل في جوفه الكثير من التناقضات الأخلاقية، يهين ولا يقبل الإهانة، يرفض الظلم ولو فعله لا لوم عليه. في السجن وجدنا من هذه النماذج المحيرة الكثيرات، يتوددن إلينا ليسمعن حديثنا عن الكرامة والحريات فيطربن لذلك. يجدن في فكرنا ملجأ ينتشلهن من عالمهن الموبوء، يتمنين أن تسعهن زنزانتنا ليشاركن أحاديثنا، وكان من جانبنا مشاركتهن حفلات البراءة والإفراج، وكن حريصات على بناء جسور ثقة واحترام مع كل من يراعي آدميتهن، فلا يحقر منهن أو يعدد لهن جرائمهن.
ورغم القبضة الإدارية بعدم الاحتكاك مع الجنائيات، إلا أنهن كن يتبادلن معنا (لقمة العيش) ويستمعن إلى دعائنا "مؤمّنات عليه"، يتتبعن دخولنا إلى حمام السجن للاطمئنان علينا ومعرفة مستجدات قضيانا في خفاء، كي لا يتعرضن للإيذاء من عيون "فتيات ناصرة" اللاتي يتجسسن لنقل كل كبيرة وصغيرة لها.
(مصر)