حمزة علاء الدين (1929 - 2006)، نبت في أرض النوبة التي لم تهب لمصر إلا كل جميل، رغم كل ما عاناه أهلها أحياناً من ضير أو إهمال. بلاد تحب الحب، والألوان الزاهية، والبيوت المتأنقة، والشوارع الهادئة، والصناعات اليديوية المتقنة؛ فيها ولد ونشأ، غنى في صحاريها وجبالها، وترددت أصداء صوته بين جنباتها في سكون الليل. صارت النوبة عنواناً له، فلا يذكر حمزة إلا وذكرت النوبة، وأعطاها من فنه وألقه وإبداعه، حتى صارت موسيقاه عنواناً لها. لا أحد يسمع شيئاً من ألحانه إلا وتذكر تلك الأرض العريقة.
في عام 1960، ومع اتساع أعمال بناء السد العالي، غرقت قريته "توشكي" قرب وادي حلفا. اضطر علاء الدين للهجرة مع أسرته إلى القاهرة، درس هندسة الكهرباء، وتخرج ليعمل مهندساً في هيئة السكك الحديدية. لكن ميوله الموسيقية أخذته إلى معهد الموسيقى، لدراسة الموشحات وأصول الغناء والعزف على العود. حقق قدراً من الشهرة. وسجلت له الإذاعة السودانية عدداً من الأغاني، فاتسعت جماهيريته، وأصبح المطرب النوبي الأول بلا منازع.
قبل علاء الدين دعوات السودانيين لزيارتهم والإقامة بالقرب من الإذاعة السودانية، لكن المقادير رتبت له مساراً مغايراً، فقد التقى بوفد إيطالي كان يزور إذاعة الخرطوم، وأدى أمامهم بعضاً من أغانيه، ولمسوا ما لديه من رغبة في التطوير، فأرسلوا إليه منحة لدراسة الموسيقى في إيطاليا، التي كانت أولى محطاته الغربية.
وبالفعل، درس في أكاديمية سانت سيسيليا في روما، لكنه عاد إلى مصر، وتوجّه إلى قريته، ليقدم فنه لأهله، مغنياً وعازفاً على آلة العود، وبذل خلال تلك الفترة جهداً كبيراً في جمع الأغاني النوبية، متنقلاً من قرية إلى قرية على ظهر حمار. بذل جهداً كبيراً لإنقاذ التراث الموسيقي لأجداده، وأدرك أن التطوير الحقيقي لا يكون إلا بعد التشبع بالأصول، وإلا جاء مسخاً مشوهاً.
نال حمزة علاء الدين منحة لدراسة الموسيقى الغربية في الولايات المتحدة الأميركية، وفي عام 1964 سجل أول ألبوم له بعنوان "موسيقى النوبة" (Music of Nubia)، وقدّم أول حفلة موسيقية له على مسرح أميركي. وفي عام 1968، سجل ألبومه "إسكاليه"، أو الساقية بالنوبية، وهو عمل يمزج بين الموسيقى النوبية والمقامات الشرقية، كما وضع الموسيقى التصويرية لفيلم الحصان الأسود للمخرج فرانسيس فورد كوبولا. توثقت علاقته بعدد من نجوم الفرق الموسيقية العالمية، الذين أخذوا باللون الموسيقي الذي يقدمه، فانفتحت أمامه أبواب العروض على مسارح العالم.
يرى الدبلوماسي السوداني عبد المجيد علي حسن، الذي توثقت صداقته بحمزة علاء الدين، أن السياق السياسي والفكري في الولايات المتحدة خلال عقدي الستينيات والسبعينيات ساهم في شهرة الرجل، وانتشار فنه. فقد تنامت الحركة المناهضة للعنصرية، ونشط الأميركيون من أصول أفريقية لمواجهة كل أشكال التمييز، وأفرزت هذه الأجواء قيادات شابة وشخصيات فنية وسياسية، رأت في حمزة علاء الدين وفنه ما يقوي حركتها الرافضة للعنصرية، فأصبح علاء الدين قاسماً مشتركاً في تجمعاتهم ومهرجاناتهم الفنية، بل وسبباً للانتباه الأكاديمي لتدريس ما بات يعرف بعلم الموسيقى الإثنية.
وبمرور الوقت، وزيادة الخبرة والعلم، أصبح علاء الدين واحداً من أهم من تولّوا تدريس الموسيقى في جامعات أوهايو وتكساس وواشنطن، لكن نداء بمنحة إلى طوكيو طار به إلى اليابان، فاستقر فيها سنوات، لدراسة أوجه الشبه بين آلة العود الشرقية وآلة "بيوا" اليابانية التي تشبه العود، وهناك، وجد راحته، وكثر إنتاجه ونشاطه، فشارك في عدد من المهرجانات الدولية، وأصدر 14 أسطوانة، وعزف مع أشهر الفرق الموسيقية في العالم، مثل فرقة باليه أوبرا باريس، وفرقة باليه أوبرا سان فرانسيسكو.
أولى علاء الدين اهتماماً كبيراً لآلة "الطار" أو الدف النوبي، استنطقها بالإيقاعات المتوارثة، وأثبت للغربيين قدرة تلك الآلات المحلية على استخراج ألوان وأشكال من الضروب الإيقاعية لا تكاد تتناهى. "الطار" معلم رئيس من معالم الموسيقى النوبية، وتقديم هذه الموسيقى عبر أي آلة إيقاعية أخرى يفقدها قدراً كبيراً من خصائصها وتميزها. وفقط حين يختلط السلم الموسيقي الخماسي، مع صوت "الطار" العميق، تشعر بأنك هناك، في أقصى جنوب مصر، حتى لو كنت على مسرح في نيويورك أو طوكيو.
على مدار رحلته الفنية، قدم علاء الدين عدداً من الأعمال الغنائية، والأسطوانات حقق بعضها انتشاراً واسعاً، ومن أهم ألبوماته الغنائية: "العود" عام 1965، "أغنية النيل" عام 1982، "كسوف الشمس" عام 1988، وكان آخر ألبوم أصدره عام 2000 بعنوان "أمنية"، فاكتملت به حياته الفنية الطويلة، التي أصدر خلالها 14 أسطوانة حملت جوانب متعددة من مشروعه الكبير.
ولعل أغنيته الشهيرة التي كتبها الشاعر الراحل بشير عياد خير مثال للقيم التي عاش من أجلها علاء الدين، ولعلها أيضاً تروي قصته الطويلة في التنقل والارتحال من بلد إلى بلد، ومن قارة إلى قارة، من توشكا، في أقصى الصعيد، إلى السودان، إلى روما في أوروبا، ثم إلى أميركا واليابان:
"أنا عصفور بقلب أبيض وألف لسان.. أطير على الكون.. أغني للسلام، للحب، للإنسان... في كل مكان.. أطير فرحان.. في أي مكان.. عناويني سطور منقوشة بالأحلام.. قلوب بتدق يجمعها أمل بسام.. في ناس تتمنى خير للناس مدى الأيام.. أغني .. أبتسم .. وأبكي.. دموعي تغسل الأحزان.. في أي مكان".
يكاد يكون فن حمزة علاء الدين مجهولاً لدى الغالبية الساحقة من المصريين، فوسائل الإعلام المرئية والمسموعة لا تبث له شيئاً، لا عن عمد أو إصرار، بل لأن القائمين على هذه الوسائل لا يعرفون الرجل، وربما لم يسمعوا باسمه.
في مصر تعتقد الأغلبية الساحقة من الجماهير أن محمد منير هو ممثل الغناء والموسيقى النوبية. ألم يولد منير في النوبة؟ ألم يهاجر هو وأسرته إلى القاهرة بعد غرق قريته؟ ألم تكن مسيرته مقرونة بمسيرة أحمد منيب الموسيقي النوبي الأشهر؟
كل ذلك صحيح، لكن محمد منير أكسب غناءه صفات فتحت له باب القبول الشعبي الواسع، كسا الألحان والغناء الذي يؤديه بقدر من صفات "الغناء العام"، ولم يكن ذلك ليتأتّى له إلا على حساب الخصائص المميزة لموسيقى النوبة وغنائها.
في المقابل، استمسك حمزة علاء الدين بتفاصيل ما ورثه عن أجداده، وجعل التطوير "داخلياً" يتولد من رحم الأشكال المقامية والإيقاعية والأدائية النوبية. رحل حمزة علاء الدين في بيركيلي بكاليفورنيا، صيف عام 2006 ولم يلق في بلده - حتى الآن - التكريم اللائق، باعتباره أبرز فنان قدمته النوبة، وأحد أهم حراس التراث الغنائي المصري في أقصى الجنوب. وقد ظلّ لآخر حياته مستمسكاً بالزي النوبي، يرتديه في كل محافله على المسارح في بلاد الغرب؛ فاستحق بفنه وصوته وهيئته أن يكون الممثل الشرعي لموسيقى الأرض الطيبة.