أكثرُ من أربعين عاماً مرّت على إقامتها في فرنسا، لكن الحبل العاطفي الذي يربطها بـ "قلب لبلاد"، كما تُحبّ أن تُسمّي مسقط رأسها في وسط مدينة باتنة (شمال شرق الجزائر) لم ينقطع يوماً. هي التي غادرته إلى قسنطينة ثم إلى العاصمة من أجل دراسة علم الاجتماع، قبل أن تلتحق بجامعة "السوربون" في فرنسا مطلع السبعينيات، ثم تقرّر الاستقرار هناك.
تحضُر الذكريات بقوّة في حديث المطربة الجزائرية حورية عايشي إلى "العربي الجديد". بكثير من الحنين، تستحضر طفولتها في باتنة. تقول إنها لم تفتح عينيها على الموسيقى فحسب، بل سمعتها في بطن أمّها، وهذا ما "جعل بيني وبينها حبلاً سريّاً لا ينقطع".
تضيف: "قضيتُ طفولة جميلة في عائلة محافظة، مليئة بالإخوة.. كلّ أبناء جيلي في الحيّ كانوا إخوتي. في البيت فتحتُ عينيّ على مغنّيات كبيرات يؤدّين الأغنية الشعبية الملحونة، ومنهن جدّتي التي كانت تأخذني معها إلى الأعراس وتُعلّمني الغناء. تأثّرت كثيراً بتلك الأجواء واكتشفت جمال هذا الموروث الشعبي وثراءه. أخذتُ منهن النصوص والتقنية أيضاً، ثمّ طوّرت حساسيتي تجاه هذا الفن".
في باريس، بدأت احتراف الغناء مع أوّل وقوف لها على الخشبة سنة 1984، خلال "المهرجان الدولي للغناء والموسيقى النسائية".
حدث ذلك دون سابق تخطيط، كما توضّح: "غنّيتُ في حفلة عيد ميلاد أحد الأصدقاء، بعد إلحاحٍ منهم. فاقتربت سيّدة فرنسية منّي، قدّمت نفسها بأنّها مساعدة مدير المهرجان، أبدت إعجابها بصوتي ودعتني إلى المشاركة فيه. لم يكن أمامي وقت كثير للتحضير، لكنني نجحتُ في النهاية".
لا تُخفي عايشي تأثّرها بروّاد الأغنية الشاوية (نوع من الغناء الأمازيغي )، وعلى وجه الخصوص بقّار حدّة وعيسى الجرموني الذي تقدّم أغنيته "عين الكرمة" في كلّ حفلاتها. ولأنّها اختارت هذا الطابع الموسيقي، فقد بقيت منطقة الأوراس معينها الذي لا ينضب: "كنتُ أذهب بشكل منتظم إلى الأوراس، وأجمع النساء ونغنّي معاً وأسجل تلك الأغنيات، وحين أعود إلى فرنسا أعيد الاشتغال عليها".
تقول عايشي إن سرّ نجاحها هو العمل المكثّف والمنتظم والصبر والحب والإيمان بما تفعله: "أؤمن بأن ما أقوم به له قيمة كبيرة، بالنسبة إليّ على الأقل". تضيف بأن ذلك لم يكن ليتحقّق، لولا التقاؤها بموسيقيّين وفنانين آمنوا بمشروعها الموسيقي.
من هؤلاء سعيد نيسيا، "القصاصبي" (عازف آلة القصبة). تقول إن للقائها به قصة جميلة: "كنتُ أبحث عن قصاصبي، فدلّني بعضهم على جزائري يقيم في باريس منذ الثورة. بحثتُ عنه كثيراً حتى وجدته، وعرضت عليه أن يُرافقني بآلته. طلب منّي الغناء، فغنّيت له مقطعاً من أغنية لعيسى الجرموني، فقال لي إنه لا يملك قصبة تلائم صوتي، وبعد أيام جاءني وهو يحمل واحدةً. جئنا من مجالين وبيئتين مختلفتين، لكن الموسيقى جمعت بيننا. واليوم، هو واحدٌ من أهمّ عازفي القصبة، وقد رافقني في عدة حفلات حول العالم".
مع توالي إصداراتها الموسيقية: "أغاني من الأوراس" (1990) و"حواء" (1993) و"خلوة في الذكر الصوفي الجزائري" (2001) و"خيالة الأوراس" (2009)، أصبحت عايشي سفيرةً للأغنية الشاوية عبر العالم؛ حيث أحيت حفلاتٍ في كثير من البلدان.
كيف نجحت في إيصال الأغنية الشاوية من بيئتها المحلية إلى هذا الفضاء الواسع؟ تجيب: "في النرويج مثلاً، لا يوجد جزائريون كما هو الحال في فرنسا. حين أغنّي هناك، فجمهوري هم النرويجيّون أنفسهم. هم لا يفهمون اللغة بالتأكيد، لكنهم يحبّون الموسيقى ويتعلّقون بها من خلال جمال الأداء وقوّة التعبير. ينسحب هذا الكلام على كثير من البلاد التي زرتُها".
تذكر عايشي حادثة طريفةً عاشتها في النمسا قبل ثلاث سنوات: "بعد نهاية حفل قدّمته هناك، اقترب منّي شابّان نمساويان وقالا إنّهما مستعدّان لخدمتي إن كنتُ بحاجة إلى أيّ شيء. سألتُ عن سرّ اهتمامهما معتقدةً أن مردّه إعجابهما بفنّي، فأخبراني أنهما قاما بمغامرة في الجزائر التي سافرا إليها عبر البحر قبل سنوات. أخذا معهما خيمةً، لكنهما لقيا ترحيباً وضيافةً طيلة إقامتهما، بحيث لم يحتاجا إلى شيء. لقد عرضا عليّ خدماتهما كنوع من ردّ الجميل، وقد أثّر ذلك فيّ كثيراً".
ودون أن تبتعد عن هذا الطابع الذي يعتمد فقط على "القصبة" و"البندير" (الطبل)، فتحت تجربة عايشي على تجارب موسيقية لشعوب أخرى، فقدّمت أعمالاً معاصرة مع الموسيقي الفرنسي نيكولا فريز، وشاركت مع مويا بافلوفسكا من مقدونيا ومونيكا باسوس من البرازيل في تقديم أغانٍ تمزج بين الجاز والموسيقى الشاوية.
لا يقتصر اهتمامها بالتراث الموسيقي الشاوي عند حدود الغناء، بل يتعدّاه إلى البحث. تقول إن تخصّصها الأكاديمي ساعدها في عملها الميداني وبحوثها الأنثروبولوجية حول موسيقى الأوراس. ومؤخّراً، صدر لها برفقة الباحث الجزائري نور الدين سعدي كتاب يتناول مسيرتها الفنية بعنوان "حورية عايشي.. سيّدة الأوراس".
يمثّل الكتاب الصادر عن "منشورات الشهاب" (2014) ثمرة عمل مشترك بين المطربة والباحث، وهو بحث توثيقي للموسيقى والثقافة الأمازيغية الشاوية. وفيه يصف الباحث عايشي بأنها "تتميّز بحنجرة غير عادية تجعل الجمهور يكتشف إرثاً موسيقياً وطنياً واسعاً". ويعتبر أن "طريقة غنائها وإحساسها يمثلان إبداعاً جديداً عصرياً، ضمن التقاليد نفسها".
تؤكّد عايشي أنها تعمل على تأسيس عمل بحثي وأرشيف متكامل حول هذه الموسيقى. نسألها في النهاية إن كانت تفكّر في الغناء بلغات أخرى، فتجيب مبتسمةً: "لا أعرف الغناء إلا بالشاوية".