إلى محمد المطرود..
هل حانَ وقت النهر كي يتجلىَّ وأصطادُ نفسي؟!
يا محمّد..
وأنا هنا في مدينتنا الغارقة إلى أعناقها بالعطش، أحملُ هذا النص الغارق معي بالديون وعرق الخجل، هذه الشوارع التي شردتني في الإجازاتِ السريعة والمدن البطيئة، الأرصفة التي حفرت ذكرياتها في ملامح وجهي، تدخن حداثتي، الأشجار التي انحنت على حافةِ المدينة وهي تصغي لقلوبِ العصافيرِ والعابرات خبأت طعمها في شقوقِ شفتي المتيبّسة، وأنا في مقهى القصيدة أنتظر أن تستردَّ الشبكة أنفاسها تذكرتُ أني قلتُ لك مرة، إن الوردة التي لا تسقيها ماء تذبل وتموت، طبعاً هذا ليس شيئاً جديداً والكلُّ يعرفون ذلك، لكنهم لا يعرفون أن أذني مثل الوردة تماماً، صوتكَ هو ماؤها.
يا محمّد..
في آخرِ محادثةٍ كتابية كان صوت أصابعك ينزل على قلبي السكينة، قلبي الذي حرثت بساتينه المجنزرات بأسنانها، وكانت عيناي المتسلّلتين بين أكداس الضحكات وفستان فتاة فاتنة تعبرُ مسرعة، تعانق كلماتك وتُقبلها واحدةً واحدة، إلى أن قلتَ ليّ "عليك أن تفكر في ثمانين"، حينها حاولت المراوغة وأسرعتُ في الهروب!.
لأول مرة في حياتي أحاول الهروب منك، أول مرة في حياتي أرى دموع أصابعي فوق لوحة المفاتيح تنزف فرحتها الحقيقية، ليست أول مرة ورصيد قلبك العاطفي يطوقني بذراعين لا تخشيان حُمّى القصيدة، لا أعرف لماذا هربت منك ولكني أعرف أن الروح خرجت من هناك بشقِ الأحلامِ والأنفس، خرجت إلى الشارع تتلمس سور الحديقة الواطئ، الحديقة التي قلتُ عنها في ما مضى أنها سيدة أرملة وتدفن أسرارها تحت ظلّ الأشجار.
"اسمع يا محمّد"
بعينين مشقوقتين بخجلِ الضوء تركتُ الحديقة ورائي، وصافحت شارع حارتنا الطويل بحواسي الخمس، حارتنا -المنتفخة من الصراخ والضيم- لم يصافحها شاعرٌ أو جريدة، مثرثراً مع نفسي الوصية ثقيلة/ ثقيلة، ربما أحسست أنها ثقيلة لأني لم اقرأُ بعد، الصخرة والنبع، ألوان الغيم، أشجار الشوك المتناثرة على طولِ دروبنا الترابية، وطن الغبار والوحلّ العالق في مساماتِ روحي، الكسل الذي يسكنني، الفقر وتاريخ الحزن المخصص لحياتي، يتمي الذي يضيء حتى هذه اللحظة.
ربما لأني قلتُ لنفسي ما شأنكِ وشأن هذه اللغة المعطلة والأبجدية التأتأة، ما شأنكِ وشأن هذا الضياع المهذب خلف دخان الندم والتخيّل والغوايات، ليس سهلاً عليَّ أن أمشي عشرين عاماً في عراء النثر والأدغال المصفرة، وأن أجد لنفسي كرسياً متهرئاً وطاولة هادئة تكفي لرسالةِ حبٍ تحملُ زادها وبكاءها.
يا محمّد..
هل يستطيع ولدٌ مثلي يحتمي وجهه من الهواءِ بكوفيةٍ حمراء، أن يجمع ثمانين شارعاً بجنازاتها اليومية، بأرصفتها المسحوقة بأقدام الجنود والمارة، بأعمدةِ كهربائها المقطوعة بفؤوسِ الذكريات ومناجل الحنين، ليس سهلاً أن أكتبَ رف عصافير ضريرة أشعلوا النار في أجنحتها، ويتامى يخمشون وجه القصيدة، ليس سهلاً أن أجمع أصابع الغيم لقمرٍ مثلوم وأكتب وطناً توزع بين الأنقاض وسماءً تنسج في أزرقها أسماء البلاد، سماءً تركضُ بطائراتها نحوَ أهلي المثقلين بذعرهم. ليس سهلاً على طفلٍ مثلي يشعر بالغصةِ أذا مرَّ بمحالِّ الألعاب أن يحمل حقيبة الحرب وأمشاط الرصاص وبطاقته الشخصية.
يا محمّد..
الآن وقد طارت تفاحات النص من الرّوح، سأمضي مثل الريح -نحو المدينة- أخيط شارعاً بشارع وأصفّر للنوافذ والأبواب واللافتات، لقطارِ الحسكة وضحك فتيات المدارس المشاكسات، للمقاعد الفارغة والباص النائم في الطريق، أصفّر للأصدقاءِ وقائمة الديون وضياعي على الورق ومشاريعي الكتابية المعطلة دائماً كسيارةٍ عند الباب، الآن وقد سالت ذاكرتي على ما مضى من السنين، بأي أحلامٍ أعود إليك وأنت أخي!
(سورية)
يا محمّد..
وأنا هنا في مدينتنا الغارقة إلى أعناقها بالعطش، أحملُ هذا النص الغارق معي بالديون وعرق الخجل، هذه الشوارع التي شردتني في الإجازاتِ السريعة والمدن البطيئة، الأرصفة التي حفرت ذكرياتها في ملامح وجهي، تدخن حداثتي، الأشجار التي انحنت على حافةِ المدينة وهي تصغي لقلوبِ العصافيرِ والعابرات خبأت طعمها في شقوقِ شفتي المتيبّسة، وأنا في مقهى القصيدة أنتظر أن تستردَّ الشبكة أنفاسها تذكرتُ أني قلتُ لك مرة، إن الوردة التي لا تسقيها ماء تذبل وتموت، طبعاً هذا ليس شيئاً جديداً والكلُّ يعرفون ذلك، لكنهم لا يعرفون أن أذني مثل الوردة تماماً، صوتكَ هو ماؤها.
يا محمّد..
في آخرِ محادثةٍ كتابية كان صوت أصابعك ينزل على قلبي السكينة، قلبي الذي حرثت بساتينه المجنزرات بأسنانها، وكانت عيناي المتسلّلتين بين أكداس الضحكات وفستان فتاة فاتنة تعبرُ مسرعة، تعانق كلماتك وتُقبلها واحدةً واحدة، إلى أن قلتَ ليّ "عليك أن تفكر في ثمانين"، حينها حاولت المراوغة وأسرعتُ في الهروب!.
لأول مرة في حياتي أحاول الهروب منك، أول مرة في حياتي أرى دموع أصابعي فوق لوحة المفاتيح تنزف فرحتها الحقيقية، ليست أول مرة ورصيد قلبك العاطفي يطوقني بذراعين لا تخشيان حُمّى القصيدة، لا أعرف لماذا هربت منك ولكني أعرف أن الروح خرجت من هناك بشقِ الأحلامِ والأنفس، خرجت إلى الشارع تتلمس سور الحديقة الواطئ، الحديقة التي قلتُ عنها في ما مضى أنها سيدة أرملة وتدفن أسرارها تحت ظلّ الأشجار.
"اسمع يا محمّد"
بعينين مشقوقتين بخجلِ الضوء تركتُ الحديقة ورائي، وصافحت شارع حارتنا الطويل بحواسي الخمس، حارتنا -المنتفخة من الصراخ والضيم- لم يصافحها شاعرٌ أو جريدة، مثرثراً مع نفسي الوصية ثقيلة/ ثقيلة، ربما أحسست أنها ثقيلة لأني لم اقرأُ بعد، الصخرة والنبع، ألوان الغيم، أشجار الشوك المتناثرة على طولِ دروبنا الترابية، وطن الغبار والوحلّ العالق في مساماتِ روحي، الكسل الذي يسكنني، الفقر وتاريخ الحزن المخصص لحياتي، يتمي الذي يضيء حتى هذه اللحظة.
ربما لأني قلتُ لنفسي ما شأنكِ وشأن هذه اللغة المعطلة والأبجدية التأتأة، ما شأنكِ وشأن هذا الضياع المهذب خلف دخان الندم والتخيّل والغوايات، ليس سهلاً عليَّ أن أمشي عشرين عاماً في عراء النثر والأدغال المصفرة، وأن أجد لنفسي كرسياً متهرئاً وطاولة هادئة تكفي لرسالةِ حبٍ تحملُ زادها وبكاءها.
يا محمّد..
هل يستطيع ولدٌ مثلي يحتمي وجهه من الهواءِ بكوفيةٍ حمراء، أن يجمع ثمانين شارعاً بجنازاتها اليومية، بأرصفتها المسحوقة بأقدام الجنود والمارة، بأعمدةِ كهربائها المقطوعة بفؤوسِ الذكريات ومناجل الحنين، ليس سهلاً أن أكتبَ رف عصافير ضريرة أشعلوا النار في أجنحتها، ويتامى يخمشون وجه القصيدة، ليس سهلاً أن أجمع أصابع الغيم لقمرٍ مثلوم وأكتب وطناً توزع بين الأنقاض وسماءً تنسج في أزرقها أسماء البلاد، سماءً تركضُ بطائراتها نحوَ أهلي المثقلين بذعرهم. ليس سهلاً على طفلٍ مثلي يشعر بالغصةِ أذا مرَّ بمحالِّ الألعاب أن يحمل حقيبة الحرب وأمشاط الرصاص وبطاقته الشخصية.
يا محمّد..
الآن وقد طارت تفاحات النص من الرّوح، سأمضي مثل الريح -نحو المدينة- أخيط شارعاً بشارع وأصفّر للنوافذ والأبواب واللافتات، لقطارِ الحسكة وضحك فتيات المدارس المشاكسات، للمقاعد الفارغة والباص النائم في الطريق، أصفّر للأصدقاءِ وقائمة الديون وضياعي على الورق ومشاريعي الكتابية المعطلة دائماً كسيارةٍ عند الباب، الآن وقد سالت ذاكرتي على ما مضى من السنين، بأي أحلامٍ أعود إليك وأنت أخي!
(سورية)