حين تجد إسرائيل معادلتها مهددة
يُنظر إلى الاستقرار الأمني باعتباره الصنو الموازي للنمو الاقتصادي والرفاه الاجتماعي، فلا يمكن وجود الثاني من دون الأول، وهذا الرفاه الاقتصادي والاجتماعي عامل الجذب الوحيد الذي تعتمده إسرائيل في عملية استقطاب المهاجرين الجدد، وبالتالي، بقاء الدولة العبرية واستمرارها، وتحقيق هذه المعادلة كان على الدوام شُغل إسرائيل الشاغل، منذ اغتصابها الأرض الفلسطينية. ومهما فعلت، الآن؛ لا يمكنها إكمال هذه الصيغة من دون الأمن، والذي خسرته، بعد حماقة سياسييها والتورط في "المستنقع الغزي"، فقد أصبحت المستوطنات المحيطة بقطاع غزة خاوية من سكانها الذين هربوا من صواريخ المقاومة الفلسطينية، وتعطلت المنشآت التجارية والصناعية فيها، كما تكبّدت شركات الطيران الإسرائيلية خسائر مالية تقدر بـ 500 مليون دولار، بعد وصول صواريخ المقاومة إلى مطار بن غوريون، وبلغت خسائر قطاع السياحة من فنادق ومطاعم ومرافق ترفيهية إلى ما قيمته 700 مليون دولار، كما بدأ الاقتصاد الإسرائيلي بالترنح على وقع الضربات الموجعة التي تلقاها من حملات المقاطعة الفلسطينية والأوروبية للمنتجات الإسرائيلية، خصوصاً المصنوعة في المستوطنات، وهذه الأخيرة تقودها في أوروبا منظمات غير حكومية، زادت من نشاطها في أثناء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، واستطاعت إخلاء رفوف العرض من البضائع الإسرائيلية في محال تجارية كبرى، وجاء بعدها قرار الاتحاد الأوروبي بتفعيل مقاطعته البضائع المنتجة في المستوطنات المقامة على الأراضي الفلسطينية والجولان المحتل، الذي ينذر بإغلاق عشرات المصانع المقامة في تلك المستوطنات، وخسارة أصحابها أعمالهم وأموالهم، ما سوف يدفعهم إلى الانضمام مع أصحاب شركات الطيران والفنادق الفاخرة والعمال في الاحتجاج على الحكومة الإسرائيلية، ومطالبتها بالتعويض عن تلك الخسائر التي تقدر بمئات الملايين الدولارات. وجاء القرار الأوروبي ليزيد من حجم المخاوف الإسرائيلية، التي تراها استجابة رسمية للأصوات المطالبة بمقاطعة اسرائيل اقتصادياً وسياسياً، وقد تتسع رقعتها لتشمل الصناعات العسكرية أيضاً.
بذلك، تكون إسرائيل فقدت عنصرين مهمين من معادلة وجودها، نتيجة عدوانها على قطاع غزة، هُما الأمن والاقتصاد، وبدأت تتهاوى هذه المعادلة على يد المقاومة الفلسطينة، كالمنزل القديم الذي انهارت أساساته بغتة، وما كانت عوامل جذب واستقطاب في الماضي تحولت، الآن، إلى عوامل طرد، تقود إسرائيل وكيانها القلق، إلى مواجهة أخطر كوابيسها، المتمثل بالخطر الديمغرافي، مع تنامي معدلات الهجرة المعاكسة المتوقعة. فالمجتمع الإسرائيلي هش جداً من الداخل، وهو مكون من مجتمعاتٍ عديدة أصغر، يغلب عليها انتماؤها إلى أوطانها الأوروبية الأم أكثر من انتمائها إلى القومية الإسرائيلية، وعلى الرغم من كل الإغراءات التي قدمتها لهم الوكالة اليهودية، والحكومات الإسرائيلية المتعاقبة في العقود الماضية، من عمل ومسكن ودعم مالي، لاستجلابهم لكي يكونوا وسيلتها في فرض وجودها وصناعة هويتها. لكن، بات واضحاً، وباعترافهم، أنهم لا يرون "القومية الاسرائيلية" تستحق دفع حياتهم في سبيل حمايتها، كما أن العامل الديني لم يكن العامل الأقوى الذي يجلبهم جميعاً من أصقاع الأرض إلى فلسطين المحتلة، باعتبارها (حسب زعمهم) جنة اليهود وأرض الميعاد، بل كان المعدلات المغرية للنمو الاقتصادي والرفاه الاجتماعي الموعود. وبحسب الاستطلاعات، أدى انخفاض مستواها، في السنوات القليلة الماضية، إلى تدني أعداد المهاجرين الجُدد إلى الدولة العبرية، من حوالي 100 ألف مهاجر سنوياً في التسعينيات إلى أقل من 20 ألف في السنوات الأخيرة.
وقد أحيا هذا الانخفاض الحاد في أعداد المهاجرين من جديد "القلق الوجودي" لدى أصحاب الفكر الصهيوني والديني المتطرف، وعاودت بالظهور المخاوف القديمة من اندماج اليهود في أوروبا والولايات المتحدة ضمن مجتمعاتهم هناك، وهو ما اعتبره وزير الخارجية الإسرائيلي، أفيغدور ليبرمان، وأحد أبرز زعماء التطرف الصهيوني أنه "يهدد بزوال الجاليات اليهودية هناك"، حيث أعلن، في فبراير/شباط الماضي، عن نيته تخصيص بليون دولار سنوياً لتأسيس مدارس يهودية في مختلف أنحاء العالم، لتعزيز الهوية اليهودية لدى الجاليات الشابة، وحمايتها من الفناء.
من جانب آخر، لم يقتصر الخطر الوجودي الداهم على إسرائيل، بسبب انخفاض أعداد المهاجرين اليهود سنوياً، فقد ارتفع بالتوازي معه منسوب الهجرة المعاكسة، حيث ذكر استطلاع رأي، أعدته القناة الثانية الإسرائيلية، مطلع العام الجاري، أن 56% من المواطنين اليهود في المجتمع الإسرائيلي يفكرون بالهجرة من إسرائيل، بسبب الضائقة الاقتصادية التي أصابتها في ذلك الوقت، كما أفاد الاستطلاع بأن 16 ألف إسرائيلي، أغلبهم من جيل الشاب، يهاجر إلى أوروبا سنوياً بحثاً عن الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي.
ويدعونا هذا الأمر، بقوة، إلى السؤال؛ إذا كان مجرد مرور إسرائيل بضائقة اقتصادية، قام على إثرها آلاف الشباب بالهجرة منها، ودفعت آلافاً غيرهم إلى التفكير بذلك، فما الذي سيحصل، إذا فُقد الأمن إلى جانب الاقتصاد؟ بالتأكيد، الإجابة على هذا السؤال باتت واضحة، فالأوضاع التي تمر بها إسرائيل لا تبشرها بالخير، حيث لا تزال الوحدة الوطنية والصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني في قطاع غزة والضفة المحتلة، يحصدان مزيداً من الإنجازات؛ إلى جانب فصائل المقاومة الفلسطينية، والتي أحرجت إسرائيل وقادتها العسكريين، وحالت دون تحقيقهم أي نصرٍ، يعودون به إلى القادة السياسيين، على الرغم من كل ما يمتلكونه من طائرات ودبابات وسفن حربية، فضلاً عن الصواريخ الذكية، وخطّت بيدها فصل النهاية لسيرة نتنياهو السياسية، وبعدما عجزت آلة الدعاية الإسرائيلية في تبرير جرائمها الوحشية، واستخدامها القوة المفرطة بحق المدنيين العزل؛ ها هي، الآن، حملات المقاطعة الداخلية والدولية تزيد من خسائرها الاقتصادية الفادحة التي تكبدتها في أثناء عدوانها على قطاع غزة، وتساهم بدورها؛ في زيادة احتقان المجتمع الإسرائيلي وأصحاب المعامل والمصانع، كما تقضي على المشاريع الاستثمارية في المستوطنات.
وفي ظل هذه الأوضاع، لم يعد شبح الخطر الديموغرافي الوجودي لدى إسرائيل يلوح في الأفق أصبح وشيكاً جداً، وهذا ما يُفسر إصرارها في مفاوضات القاهرة على شروط تلبي "حاجاتها الأمنية"، فالمعادلة الوجودية لديها تقول: بدون أمن، لا يوجد اقتصاد، وبدون اقتصاد لا يوجد مهاجرون، وبدون مهاجرين لا يوجد إسرائيل. وأمنها الذي يُعتبر مفتاح المعادلة، بات عالقاً بين نارين، صواريخ المقاومة في غزة من جهة، والمواجهات المستمرة مع الشبان الفلسطينيين في الضفة المحتلة من جهة أخرى. وهي تدرك جيداً أن الاستجابة للمطالب الفلسطينية، والتوصل إلى اتفاق مع الجانب الفلسطيني هو ممرها الإجباري، لإستعادة أمنها ونموها الاقتصادي المفقود، وبالتالي، استعادة مفردات معادلتها الضرورية من أجل البقاء، قبل أن يبتلعها الطوفان الديمغرافي الفلسطيني.
بات بديهياً القول إن الكيان العبري صار، الآن، في مواجهة مباشرة مع أخطر أزماته الوجودية، ولعل هذا أهم ما حققه الشعب الفلسطيني ومقاومته الباسلة في معركة التصدي للعدوان الوحشي على قطاع غزة. وفي المستقبل القريب، لن يتلخص همه الوحيد في الإبقاء على أبوابه مفتوحة لاستقبال المهاجرين الجُدد، بل عليه الانشغال، أيضاً، في مواجهة الهجرة المعاكسة وأخطارها المتزايدة، فقد أصبحت الأبواب الخلفية مُشرعةً أمام آلاف الهاربين الجُدد، الذين حزموا حقائبهم، وحملوا جوازات سفرهم الأجنبية، تاركين خلفهم "كيانها القلق" في رحلة البحث عن "اقتصاد" آخر مربح، يمنحهم هوية ووطناً جديدين.