يتصدّر "أبو غسان" في كل يوم مجلسه ويبدأ بإفراغ سلاله من قصص ونصائح ونظريات، معظمها من نسج خياله. يحق له مقاطعة أي متحدث. يصوّب فكرة هنا ويسدّد رأياً هناك. فهو الخبير في السياسة والثقافة والفن، والمحلِّل في الشعر والأدب، وله في الطب والصحافة باع طويل طويل، بحسبه. فهو بحر المعارف والعلوم، لا يبني رأياً إلا وأسنده بحجّة من صياغته، أو أردفه بتجربته الخاصة، طبعاً وفي كل ذلك لديه طريقته في التعبير.
بقي "أبو غسان" الخضرجي الشخصية الأبرز حتى بداية تسعينيات القرن الماضي في ذاكرة أبناء "حي السلم"، أحد الأحياء الشعبية في ضاحية بيروت الجنوبية، صاحب خيال واسع وسرعة بديهة، فطرافته تمحورت حول قدرته العالية في حياكة قصص وسردها بشكل مقنع وساخر، حتى يختلط فيها المزح بالجدّ، والواقعي بالمجازي، والصدق بالكذب.
كان دكان "أبو غسان" في أول الزاروب المؤدّي الى بيتنا في حي السلم. محل لا يزيد طوله عن أربعة أمتار، بعرض ثلاثة أمتار تقريباً، وهو الملتقى اليومي لمعظم رجال الحي، من أقارب وأصدقاء وجيران أبي غسان. طاولة للعب النرد في أحد أركانه، ومكتب يجلس خلفه في ركن آخر. وركن يضع فيه براداً، وعلى سطح البراد يحضر القهوة والشاي لزوم الضيافة، وفي المساحة الصغيرة المتبقية يستقبل ضيوفه. ولأن المكان المتبقي لا يتسع لعرض صناديق الخضر، فقد احتل قسماً من الشارع أمام الدكان لعرض بضاعته.
مبالغاً في كل شيء، يتنقل "أبو غسان" من حكاية لأخرى من دون مسوغات. يحكي أن حبه الشديد لعبد الحليم حافظ دفعه إلى لقائه مرات عدة، وبناء صداقة متينة معه. وعن علاقته بالصبوحة، يقول إنه أعطاها أكثر من قصيدة غنتها.... مهارته وحنكته تكمن في الهروب من أي سؤال محرج، فحين يسأل عن شخص، يكرر اسمه أكثر من مرة ويرفقها بهزّة برأسه بطريقة توحي للسائل بمعرفته الشديدة، وعدم رغبته في الكلام.
على النحو التالي:
ماذا غنت لك الصبوحة؟
يجيب: صباح، عيوني صباح
أو أين التقيت بعبد الحليم؟
فيجيب: عبد الحليم، حبيب قلبي عبد الحليم.
يتوجه "أبو غسان" إلى مجالسيه من موقع العارف بكل التفاصيل. يلوم فلاناً ويحاسب آخر. يصدر أحكامه بكل ثقة. اتهم جاره مرة، طبيب الأسنان، بالغش، لأنه توجع كثيراً حين قلع له ضرساً، واتهمه بأنه يخلط البنج بالماء، ويسترسل بعدها في شرحه عن معرفته بأنواع البنج وكيفية استخراجه، لينهي كلامه بالقول: "الله يرحمك يا دكتور "عدنان" كان عندك بنج، بنج مش نصو مي".
استحدث ذات مرة رفاً على أحد حيطان المحل، ووضع عليه مجموعة من النظارات الطبية، زاعماً أنه يريد معالجة عيون سكان الحي. فصار يفحص عيون زبائنه، يتنقل بين صناديق الخضر ورف النظارات، أذكر وقتها أنه أقنع الكثيرين، فبعد أن يفحص عيون الزبون بتجريب كل النظارات الموجودة واختيار أنسبها بما يلائمه، يلزمه بشرائها واستخدامها.
روى لنا مرة، عندما كان ابنه البكر "غسان" في صف الشهادة الثانوية، ويدرس في مادة البيولوجيا عن وظائف جسم الإنسان، أنه ذهب إلى مقبرة المريجة، وهي بلدة في ضاحية بيروت الجنوبية أيضاً، وأحضر جمجمة "أم الياس" إحدى النساء التي قضت قبل عشرة أعوام تقريباً، قاصداً أن يستفيد غسان وزملاؤه بالصف من وجود جمجمة طبيعية بين أيديهم. يزعم "أبو غسان" أنه يعرف "أم الياس" ويعرف أولادها، وما استخدامه لجمجمتها إلا في سبيل العلم. ثم يستطرد ويقول إن حفيدها "جان" زميل غسان في الصف، وبالتالي هو الأولى في الاستفادة من جمجمة جدته. ويغرق في ضحكه وهو يخبرنا كيف دخل غسان بالجمجمة إلى الصف وأخبرهم أن هذا الرأس هو رأس جدة زميلنا "جان"، وكيف أغمي على نصف الصف من الخوف.
يُجمع كل من عرف أبو غسان، أن معظم ما نطق به هو من صنع خياله، لكنهم يقبلونه ويصدقونه، يرفضون تكذيبه. لأن "أبو غسان" لم يقصد خداع أصدقائه، فقد تواطأ معهم جميعاً، فهو أيضاً يدرك أنهم يرغبون بتصديقه. متصالحون، يبحثون عن فكرة تأخذهم إلى أماكن أخرى، يخترعون قصصاً وحيوات وهمية يهربون إليها من مراراتهم.
رحل أبو غسان، ورحل معه جيل بأكمله، وأطاحت الحداثة والتكنولوجيا بالدكان، حيث فتح "غسان" مكانه محلاً لبيع التليفونات الخليوية، وبدأ فيه بكذب من نوع آخر. كل شيء تغير، الحي والناس، صار الكذب مميتاً، وآفة يعاني منها الجميع. وبعد أن كان طرفة صار مرضاً، ولم يبق من "أبي غسان" إلا الذكريات، وأصداء فرادته التي بقيت تتردد على لسان كل من عرفه حتى بتنا نترحم على "خبرياته"... في زمن لا نعرف الصادق من الكاذب.
اقرأ أيضاً: أجمل الضحكات... حيث يكون الضحك ممنوعاً