سقط "القناص الأميركي" صفر اليدين، ولم يلتفت الأوسكاريون فجر أمس إلى خطابات لوثر كينغ ومسيره الطويل في "سيلما"، ولا لعزف أندرو الدامي على الدرامز في "ويبلاش"، بل إلى معلمه فلتشر والمونتاج ومزج الصوت، وجاءت أوسكارات الأزياء والمكياج والموسيقى من نصيب "فندق بودابست الكبير"، بينما مضى "نظرية كل شيء" نحو أوسكار أفضل ممثل، و"لعبة المحاكاة" إلى أفضل سيناريو مقتبس.
تلك هي الأفلام التي تنافست على جائزة أوسكار أفضل فيلم، التي استقرت على "الرجل الطير" الدامغ. وقد خاض مخرجه أليخاندرو غونزاليس إيناريتو خلاله تجربة سينمائية أصيلة، لم يكن لها من منافس في هذا السياق سوى فيلم ريتشارد لينكلاتر "صبا"، الذي خرج فقط بأوسكار أفضل ممثلة في دور مساعد للممثلة باتريشيا أركيت.
في النهاية، حصد "الرجل الطير" أربعة أوسكارات، لثلاثة منها أن تتمحور حول إيناريتو بالذات؛ أي أوسكار أفضل فيلم وإخراج وسيناريو، وأوسكار رابع لمدير التصوير الشهير إيمانويل لوبيزكي، الذي فاز العام الماضي بأوسكار التصوير عن فيلم "جاذبية"، وقد سبق لإيناريتو عام 2007 أن خرج فيلمه "بابل" خالي الوفاض إلا من أوسكار أفضل موسيقى من بين سبعة ترشيحات.
إنها أوسكارات مستحقة للمهاجر المكسيكي، وهو القادر على إبهارنا بما يقترفه من تجارب سينمائية. وليس حصول "الرجل الطير" على الأوسكارات الأربعة إلا مكافأة للانشغال بالشكل والانحياز للتجريب، ولقطة واحدة تجري صياغتها بحنكة.
لم يحقق "الرجل الطير" ما حققه "تيتانك" (1997) أو "سيد الخواتم" (2003) وقد فازا بـ 11 أوسكار، فهو لم يقترب من جوائز التمثيل أو الأوسكارت الأخرى، ليكون أوسكار أفضل ممثل من نصيب إيدي ريدمان وقد جسّد شخصية ستيفن هوكينغ في "نظرية كل شيء".
فازت صياغة الشخصية فيزيولوجياً أولاً، وجسد ريدمان يتحوّل إلى كومة لحم وعظم متكومة على كرسي متحرك، ومصاعب تجسيد شخصية مصابة بداء "التصلب الجانبي الضموري" ALS.
ليس كما هو الحال مع منافسه بنيديكت كامبرباتش في "لعبة المحاكاة"، حيث العبقرية السليمة جسدياً لكن المدانة لمثليتها، أو حتى ستيف كارل في "فوكس كاتشر" حيث الأداء السيكولوجي الذي يأتي من الأعماق وصراع الشخصية صراع نفسي.
ولعل هذا يصلح مع جوليان مور - سبق أن نالت ثلاثة ترشيحات في دورات سابقة - الفائزة بأوسكار أفضل ممثلة وهي تصارع "الزهايمر" في "ستيل أليس"، والتي إن كان من منافس لها فشاهدوا الرائعة ماريون كوتيار في فيلم الأخوين داردين "يومان وليلة"، لكن لسان حال أعضاء الأكاديمية يقول، ربما، سبق أن نالت أوسكار التمثيل عن تجسيدها شخصية إديث بياف في "لاموم" 2008!
في القفز إلى أوسكارات الدور الثاني، يمكن استعادة إدوارد نورتون في "الرجل الطير" الذي ما إن يدخل خشبة المسرح حتى يمسي حقيقياً، أو ذاك الأداء الهادئ لمارك رافلو في "فوكس كاتشر"، الذي يمضي به نحو مقتله، ربما يمكن الثناء على إيثان هوك وهو يكبر مع "صبا" أو "القاضي" روبرت دوفال، لكن جاي كي سيمونز - الفائز بأوسكار أفضل ممثل في دور ثان - عن دوره المدهش في "ويبلاش" هو كل الحكاية، سيعلو صراخه وجنونه وشتائمه إلى الحد الذي لا يمكن تجاهله أبداً.
بالعودة إلى "صبا"، فإن نيل باتريشيا أركيت أوسكار أفضل ممثلة في دور ثان، يجعلنا نستعيد دورها المفصلي في الفيلم، بما يغيب الأخريات، ومنهن القديرة ميريل ستريب.
يمكن مع أوسكار أفضل فيلم غير ناطق بالإنجليزية فتح الباب على مصراعيه أمام الفرص التي كانت للأفلام المتنافسة وغير المتنافسة، كوننا نتحدث هنا عن ترشيح كل بلد في العالم لفيلم من إنتاجه ليستقر الأمر على ترشيح خمسة أفلام فاز منها فيلم البولوني باول باولكوسكي "إيدا".
وإيدا ليست إلا راهبة تربت في دير راهبات، ستكتشف عبر خالتها التي ستلتقيها للمرة الأولى بأنها يهودية وأن والديها قتلا؛ إلا أن كل اكتشافاتها لن تُغيّر فيها شيئاً في النهاية حتى مع انتحار خالتها.
الفيلم بالأبيض والأسود، ومصاغ بحنكة وإيقاع بطيء في وفاء للأسلوبية البولونية، ومن دون أن يكون فيلم المخرج الجورجي ظاظا أوروشادزي "يوسفي" في وارد منافسته، ولا حتى فيلم الموريتاني عبد الرحمن سيساكو "تمبكتو"، والذي له أن يمتلك فضيلة الإضاءة على ما حل في "تمبكتو" مع غزو المتطرفين لها. وما عدا ذلك، فمدعاة للتعامل معه بوصفه من "سينما العالم الثالث".