تعتمد الصحيفة على تقرير وزاري فرنسي، أنجزته مجموعات التخطيط المستقبلي في وزارتي الجيوش والخارجية، ونشر بتاريخ 4 سبتمبر/أيلول، ويستعرض مخاطر "التلاعب بالمعلومة". ولم يكن هدف هذا الملف الذي يتضمن 200 صفحة أن يحمل الموقف الرسمي للدولة الفرنسية، ولكنه في الواقع، كما تعترف الصحيفة "لا يختلف عن تصريحات سلطات فرنسية سامية منذ سنتين". وتَعتبرُ السلطات الفرنسية عمليات زعزعة المجتمع بالاستعانة بالبروباغاندا و"الأخبار الكاذبة" والخطابات التي تساهم في إثارة التصدّع في المجتمع، والمنتشرة في شبكات التلفزيون الأجنبي أو عن طريق إشهارات مدعومة وحسابات وهمية على شبكات التواصل الاجتماعي، تهديداً من المقام الأول.
ويتعلق الأمر، بالنسبة لمؤلفي التقرير الوزاري، جان-بابتيست جانجين فيلمر وألكسندر إيسكورسيا ومارين غيوم وجَنينا هيريرا، بـ"تهديد يستهدف بتقويض أُسُس ديموقراطيتنا وأمننا القومي"، تقوم به بعض الدول.
ويعود العامل المحرّك إلى انبثاق تنظيم "داعش" واعتداءات 2015 في فرنسا. وهنا يصرح أليكس ديفورج، من المعهد الفرنسي للجيو-سياسية (جامعة باريس الثامنة)، بأنه "في هذه الفترة حصل الوعي، بطريقة قاسية، لأنه تم إغراقنا بالبروباغاندا الجهادية". هذه البروباغاندا في شبكات التواصل أخذت على حين غرة المسؤولين الفرنسيين، الذين رأوا، لأول مرة، في المحتويات على الشبكة تهديدًا محتملًا على الأمن القومي. وفي اتفاق مع شركائها الدوليين مارست فرنسا ضغوطات قوية على المنصات الكبرى على الشبكة من أجل تشديد ردّها على هذه البروباغاندا. وتعترف اليوم كبريات شركات التواصل الاجتماعي بأنها استهانت في تلك الفترة بسهولة تعامل الجهاديين على شبكاتها.
كما أن فرنسا سرّعت ملف عمليات التأثير على الإنترنت بعد الانتخابات الأميركية سنة 2016. ولم يكن قد دخل فصل الصيف بعد، حين عُلِمَ أن اللجنة الديمقراطية تمت قرصنتُها من قبل مجموعة قريبة من الاستخبارات الروسية. ولم يتفاجأ أحدٌ من وجود مجموعة هاكرز مرتبطين بموسكو مهتمين بالحياة السياسية الأميركية.
وقد اتخذ الأمر مسارًا مختلفاً وغير مسبوق، حين عَرَفَت الوثائق التي تم الاستيلاء عليها أثناء القرصنة طريقَها إلى الشبكة، ثم إلى وسائل الإعلام التقليدية. وكان الرد الأميركي خجولاً، إذ أن البيت الأبيض تجنب المواجَهة، خوفاً من إثارة شكوك غير مبرَّرَة حول نتائج الانتخابات. ولكن، وبشكل خاص، خوفاً من التصعيد مع الكرملين في الفضاء السيبراني. الكرملين الذي كذّب بشكل حازم أي عملية تدخل.
وقبل أسابيع قليلة من إجراء الانتخابات الرئاسية الفرنسية، راقبت السلطات الفرنسية، بقلق، ما يجري في واشنطن. وتساءلت عن كيفية التأكد من عدم تعرض الأحزاب السياسية الفرنسية لهجمات مشابهة لتلك التي تعرض لها الحزب الديمقراطي الأميركي. كما تساءلت إن كان يلزم إبداء الخوف من حدوث عمليات تلاعب بشبكات التواصل قد يقوم بها الكرملين.
ومن بداية الخريف، تم تحسيس الأحزاب السياسية الفرنسية بمخاطر الهجوم السيبراني خلال أي ورشة عمل، حيث تمت الإشارة إلى أن الخَطَرَ لا يكمُنُ فقط في التعرض لعملية تجسسية، ولكن أيضًا في رؤية بيانات أي حزب سياسي وقد ظهرت أمام الرأي العام. وفي شهر مارس/آذار منح الإيليزيه إلى اللجنة الوطنية لمراقبة الحملة الانتخابية (CNCCEP) سلطاتٍ جديدة في حال تعرض حزب سياسي لعملية قرصنة. كما نُفِّذَت حمايةٌ على شبكات التواصل، وهي موجَّهة لاكتشاف تصرفات آلية. وفي نوع من العصبية، قررت السلطات، العاجزة عن تأمين لائق للتصويت الإلكتروني في الانتخابات التشريعية في الوقت المناسب، وقبيل أسابيع من الاستحقاق الانتخابي، وقف هذه الطريقة في التصويت.
وقد اعتقدت السلطات الفرنسية، كما تكتب "لوموند"، إلى حدود 5 مايو/أيار، أنها تجنبت الأسوأ. لكن، وقبيل ساعات على إجراء الدورة الثانية للانتخابات، وبينما كان الصمت الإعلامي يتأهب للدخول حيز التنفيذ، ظهرت على الشبكة محتويات العديد من الحسابات الإلكترونية لأعضاء من حركة "إلى الأمام"، مقرّبين من المرشح، وترافقت مع موجة من النشر على شبكات التواصل. وعلى الرغم من أن هذا الفصل، كما اعترف مقربون من وزير الشؤون الخارجية جان-إيف لورديان، اعتبر محاولة واضحة للتدخل في الانتخابات، إلا أنه لم يتسبب في الخسائر التي كانت تخشاها السلطات.
وبعيداً عن إثارة العواطف، أكد التقرير الوزاري أن استهداف المرشح آنذاك، الرئيس إيمانويل ماكرون، لم ينجح لا في التدخل في الانتخابات ولا في بث الفرقة في المجتمع الفرنسي".
ويعزو التقرير السببَ في ضعف تأثير هذه التدخلات إلى صلابة النظام الإعلامي الفرنسي، وأيضاً إلى قلة الفترة الزمنية التي تفصل عن الدورة الانتخابية الثانية، وأيضاً الاتصال الهام حول مخاطر القرصنة والتدخل وطبيعة المحتوى (الذي لم تترتب عنه اعترافات مثيرة).
ولغاية اليوم، ترى الصحيفة الفرنسية، أنه لا يوجد عنصر ملموس يكشف عن هوية المسؤول عن هذه القرصنة، على الرغم من أن روسيا تظلّ في مرأى الفرنسيين. وهو موقف مؤلفي التقرير، الذين يرون أن مختلف المؤشرات تسير في اتجاه موسكو. إذ منذ سنوات ترى فرنسا في روسيا عنصرُا مسبِّباً للخلل في الفضاء الإلكتروني. ويرى التقرير أن روسيا "جعلت من تقنيات التلاعب بالمعلومة عقيدةً رسمية"، وذلك من أجل "إضعاف الغرب". وإن هدفَ العمليات الروسية، سواء من خلال قنواتها التلفزيونية الرسمية التي تبث في الخارج أو عبر أوكارها في شبكات التواصل، و"عبر خلط للبروباغاندا ذات التقاليد السوفياتية والتسلية، على الطريقة الأميركية" يظل هو "الإقناع بغياب حقيقة موضوعية من أجل بذر الشك والالتباس".
وبعد انتهاء الانتخابات الفرنسية سارعت السلطات الفرنسية إلى تصليب وضعيتها وخطابها، مستهدفة الروس. ولم يتردد الرئيس إيمانويل ماكرون، وهو يستقبل ضيفه الرئيس بوتين في قصر فيرساي، في اتهام قنوات تلفزيونية روسية، يمولها الكرملين، بالعمل أثناء الحملة الانتخابية، كـ"هيئات تأثير وبروباغاندا كاذبة". وفي ديسمبر/كانون الأول 2017 تحدثت مجلة "استراتيجيا الدفاع" عن مخاطر زعزعة النظام التي يمكن أن تتسبب فيها عمليات التضليل الإعلامي والبروباغاندا على شبكات التواصل الاجتماعي. وهو ما فصّلَته، بشكل أدقّ، مجلة "استراتيجيا الدفاع السيبراني" في شهر فبراير/شباط.
وفي هذه الفترة طرحت السلطة السياسية، لأول مرة، مفهوم "التلاعب بالمعلومة". وقد حدّده الوزير لودريان بأنه "حملة منظَّمَة" ينخرط فيها "فاعلون دوليّون"، ويتعلق بـ"بثّ واسع لأخبار كاذبة أو مُتحَكَّم فيها كردّ على هدف سياسي مُعاد". وأضاف: "لقد دخلنا في عصر جديد من البروباغاندا"، وإن على فرنسا "أن تتابع وتدين المسؤولين عن البروباغاندا التي ترمي إلى زعزعة الاستقرار في بلادنا"، في إشارة إلى روسيا.
ليست فرنسا وحدها في مواجهة هذه الظاهرة، فقد توجهت رئيسة الحكومة البريطانية، تيريزا ماي، في ديسمبر/كانون الأول 2017، بخطاب إلى روسيا تقول فيه: "تريد روسيا عسكرة المعلومة. [...] ولديّ خطاب بسيط جداً إلى روسيا. نحن على علم بما تقومون به". كما أن مسؤولي الاستخبارات الألمانية اتهموا، في أكثر من مرة، روسيا بالعمل على زعزعة المناخ السياسي الداخلي في ألمانيا.
وفي تقريرها السنوي الذي نشر في بداية السنة، أكدت إدارة الاستخبارات الأميركية، أنها "تتوقع أن يواصل الروس استخدام البروباغاندا وشبكات التواصل الاجتماعي وتقمصات خادعة وناطقين لطفاء ووسائل تأثير أخرى من أجل مفاقمة القصور السياسي والاجتماعي في الولايات المتحدة". بل إن أجهزة الاستخبارات الأميركية قلقةٌ جدا مع اقتراب انتخابات التجديد النصفي، في نوفمبر/تشرين الثاني.
إذاً، وفي غضون سنوات قليلة، تحركت الدول الغربية الرئيسية، بسرعة، في ما يخص قضية تأثير شبكات التواصل الاجتماعي في الديمقراطية. علماً أن القوة على زعزعة النظام التي تتوفر عليها بعض الحملات التي تخاض على الإنترنت معروفةٌ، منذ نحو عشر سنوات. وهنا يقول أليكس ديفورج: "لقد تعاملت فرنسا وأوروبا، وبلدان غربية، من وجهة نظرٍ تقنية مع الهجمات المعلوماتية كتهديد رئيسي. وهو ما يشكل اختلافاً مع المقاربة الروسية أو الصينية، التي رأت، قبل كل شيء، في الفضاء السيبراني، دعامة معلوماتية جديدة، وإذاً، تهديدا للحفاظ على النظام".
ولكن هذا التركيز المسلَّط على روسيا لا يحظى بالإجماع، كما ترى صحيفة "لوموند". وتستشهد بتصريح فرنسوا-برنار هوغ، مدير البحث في معهد الدراسات الدولية والاستراتيجية، الذي يقول: "بالطبع يوجد كثير من "الأخبار الكاذبة" على الإنترنت، وأنا على يقين بوجود مصنع المتصيّدين في سان بيترسبورغ ينشط كثيرا من "بُوتْ" (برمجيات تقلد تصرفات البشر في تصفح الإنترنت)، ولكننا نمنح أنفسنا راحة ضمير. لقد عثرنا على المذنبين [من البريكسيت إلى انتخاب ترامب]: وهم الشعبويون وشبكات التواصل الاجتماعي والروس، الذين ننتقدهم بتعابير لم نكن لنستخدمها، أبداً، أثناء الحرب الباردة".
إضافة إلى أن محاولة التدخل ليست حكراً على روسيا. كما أنها ليست ممارسة جديدة، حتى ولو أن المنصات الكبرى لشبكات التواصل الاجتماعي غيّرت القسمة. وكما يؤكد فريديريك دوزي، أستاذ في المعهد الفرنسي للجيو-سياسية والحائز على كرسي كاستيكس في الاستراتيجيا السيبرانية، فإن "ممارسة التأثير وعرقلة الانتخابات، ليسا شيئين جديدين، ولكننا نتوفر على هذه الوسائل الجديدة التي هي قوية، بشكل خاص".
إضافة إلى أن هؤلاء الفاعلين تأخروا في قياس حجم المشكلة. وكما يعترف، اليوم، أليكس ستاموس، الذي كان مسؤولاً عن الأمن في فيسبوك أثناء الانتخابات الأميركية سنة 2016، فإنّ "شركات قطاع التكنولوجيات[…] لم تكن مهيَّأة لاكتشاف ولا صدّ حملات البروباغاندا". وقد بدأت كبريات شبكات التواصل الاجتماعي، كما فعلت مع المحتويات الجهادية، مواجَهَة عمليات دولية.
ولكن من الصعب، بالنسبة لبلد ديمقراطي، أن يتصدى بشكل مباشر لعمليات التأثير في الإنترنت، إذ كيف يمكن التمييز بين الصحيح والمغلوط، بين ما هو أصيلٌ وما يخضع للتلاعب، كل هذا، بشكل خاص، في حقبة انتخابية؟ كيف يمكن تخليص الروبوتات من المستَخدِمين الشرعيّين لشبكات التواصل الاجتماعي؟ وكيف يمكن التمييز بين ناشطين من ذوي النوايا الحسنة وبين عملاء أجانب مهمتهم تتمثل في زعزعة الأوضاع؟
إن هذه الصعوبة توضّحها، كما ترى الصحيفة الفرنسية، النقاشاتُ حول القانون الموجه لمكافحة "التلاعب بالمعلومة"، والذي تبنته الجمعية الوطنية، في قراءة أولى، والذي يرى منتقدوه أنه خطير في أسوأ الحالات، وغير فعّال في أفضلها.
إن التقرير الوزاري المعروض، اليومَ، يقدّم خمسين مقترحاً، وخاصة خلق بنية تكون مهمتها اكتشاف ومكافحة المناورات، وإيجاد أفضل تواصل وإحداث تغيير في وضعية المنصات الرقمية الكبرى يحمل إكراهات جديدة من الشفافية ومن الروح الاستباقية والمزيد من تكوين مواطنيه ودعما للصحافة النوعية.
ولكن التقرير يتصدى، بشكل خاص، لـ"أزمة الثقة التي تعيشها ديمقراطياتنا"، التي تُمكِّن من عمليات زعزعة الاستقرار. ويرى مؤلّفو التقرير أن "رفض النُّخَب" و"الاستقطاب الهوياتي" أو "أزمة التواصل الاجتماعي" وأزمة الصحافة، هي عوامل، إلى جانب أخرى، تعزّز من فعالية حملات التضليل الإعلامي.
ويشدّد مؤلِّفو التقرير، في النهاية، على أن "المجتمع المدني هو مَن عليه، قبل كل شيء، أن يُطوّرَ مرونَتَهُ الخاصة به"، لأنّ الحكومات "لا تستطيع وليس عليها أن تأتي سوى كَدَاعِمٍ لهذا المجهود".