31 أكتوبر 2024
خاشقجي والجريمة غير المتذاكية
الجريمة بحق الكاتب جمال خاشقجي ليست ككل الجرائم، فالقتَلة عادة يحاولون إخفاء براهين جرائمهم، بالتمويه، بتضْييع من سيحقّق من بعدها، بخداعه. لا شيء من هذا كله مع اختطاف خاشقجي، وقتله. كان يمكن ان يُقضى الأمر بكاتم للصوت أو "انتحاراً"، أو "بحادث سير". ولكن لا: أبى الخاطفون والناقلون والمقطِّعون جثته إلا أن يتعِبوا أنفسهم ويركبوا الطائرة، وينزلوا في الفندق الإسطنبولي.. إلا أن يتعرّضوا لكاميرات المراقبة وساعة خاشقجي المتطورة وصنوف الحراسة الأمنية التركية، ويقوموا بالمهمة ثم ينكروا حصولها بأطراف شفاههم، كأنهم لا يعرفون خاشقجي أصلاً، فيشبهون بذلك الرجل الذي كان يحتمي بزرافة.
كأن السلطات السعودية المعنية بأمر القمع "طوَّرت" أساليبها منذ تولي محمد بن سلمان مقاليد الحكم. من حجز رئيس وزراء لبنان سعد الحريري منذ سنة، وإرغامه على الاستقالة، أو حبس الأمراء الأثرياء في فندق فخم، وانتزاع أموال من خزائنهم الفائضة، ضمن توجه اقتصادي "جديد".. إلى ما حصل مع خاشقجي وما سبقه ولازَمه من اعتقالاتٍ ومصائر يعلم الله وحده بخواتيمها. وكلها وقائع لم يتركوا معها مجالاً للبراءة. إنه النهج الملحاح المتهور، لا تهمّه "صورته"، لشدّة صلافته. وباسم ماذا؟ لا شيء، ولا حتى حجة "نبيلة" يمكن التفاخر بها. خلافاً لخصوم المملكة الذين يقتلون باسم "الحرب على الإرهاب"، أو "حماية" المقامات الدينية، أو الأقليات.. إلخ. للسعوديين في هذه الوقائع فضل الصدق في رفسهم العلني كل ما يتعلق بحرية التعبير والحق بالحياة.
كانت لشبكات المافيا الإيطالية لائحة شفهية لبروتوكولات القتل، تحدّد معاني القتل حسب طُرقه، فالخصم يُقتل شنقاً، بحبل رفيع، أو رمياً من نافذة عالية، أو إغراقا في النهر أو البانيو، أو
ببضع رصاصاتٍ من رشاش حربي، أو رصاصة واحدة بكاتم للصوت. ولكل جريمة معنى: إبقاء الخيط أو قطعه أو إعلان حرب أو إنهاء حرب.. جريمة ذات معنى، أي ذات رسالة محدّدة إلى الجميع. فما هي رسالة السلطات السعودية في اختطاف الخاشقجي وقتله؟ الأرجح أنها تريد القول للعالم إنها استوعبت دروس العصر، القائلة باحتضار الحريات، وبهبوط أسهم الإنسان إلى حضيضٍ جديد؛ الجرائم المكرَّرة بحق شعوب وأفراد، لم يَعُد هناك من يحاسب عليها؛ وسورية واليمن خير مثال. الجرائم مغطّاة بالصمت، باللامبالاة، بالديماغوجيا، بل بالقتل نفسه.
انظُر الآن، العالم الغربي، المفترَض أنه المعني بحرية التعبير، عكس الصين وروسيا مثلا، وهما العظيمتان اللتان لم تكترثا بالأساس لموضوع خاشقجي كله. آلتاهما الإعلامية المضبوطة اشتغلتا على ذلك. إذن، الغرب المعني بالقضية، بماذا طلع علينا حتى الآن؟ بعدما خجل قادته من الوزن الإعلامي الذي يتمتع به الرجل؟ تكلم الأوروبيون بإنشائية عالية كالعادة، والأميركيون بدرجة أعلى، ربما لأن خاشقجي عاش على أرضهم وكتبَ في صحافتهم.. ولكن، ثمة دائماً "لكن" ما في الوقائع الحيّة. ماذا يقول دونالد ترامب؟ ماذا يقول إيمانويل ماكرون؟ ماذا لا تقوله أنجيلا ميركل؟ حقاً يجب توضيح ملابسات اختفاء خاشقجي. ولكن بخصوص عقوباتٍ من نوع وقف صفقات السلاح، فلا، وألف لا. ترامب هو الأكثر صراحة وتكراراً، يعِدنا بأنه سوف يدرس المسألة "بكثير جداً من الجدّية"، ولن يعلّق صفقات السلاح مع السعودية، وإلا، سوف يكون "كمن يعاقب نفسه"، بالتسبّب بعودة نِسَب البطالة إلى الارتفاع. المحتَمل بالعكس، أن يستفيد الغرب من الركاكة التي اتسمت بها جريمة قتل خاشقجي، بأن يبتز السعودية في هذه أو تلك من المسائل الكبيرة أو الصغيرة، وقد تُحلّ العقدة كلها بإيجاد كبش المحرقة المفيد. إنه الابتزاز: تلك هي العقوبة التي يعدِنا ترامب بأنه سوف يلحقها بالسعودية، وستكون "قوية وعظيمة".
عندما سقطَ الاتحاد السوفياتي سقط النموذج الحيّ للاشتراكية، ولو الناقص، بضربات الموت
البطيء الذي تسلّل إلى عروقه عبر العقود. وسقطت معه الآمال بالعدالة الاجتماعية، وأصبح المحرومون أقل تمكّناً بتحصيل حقوقهم. الآن، ما نشهده سقوط بطيء أيضا للغرب من كونه نموذجاً حياً، وإنْ ناقصاً، للحرية الفردية والجماعية. ومحطة اغتيال خاشقجي واحدة من نقاط هذا الانحدار، إلى حيث لا حريات، حتى بداخله.. وترامب خير قاطرةٍ نحو هذا السقوط، بما يُعرف عن شدّة إعجابه بالطغاة، ومن غيرته منهم، ومن تسلّطيتهم على شعوبهم.
يرسم جمال خاشقجي، بما تعرّضَ له، صورة جديدة للمثقف الخليجي. لا هو المرهّف المتنعِّم برخاوة العيش، ولا هو ناصر السعيد، اليساري السعودي الذي خطفته السعودية من بيروت عام 1979، في عزّ الحرب الأهلية؛ وكان السعيد قد تبنّى بيروت المقاومة الفلسطينية ملاذاً لثورته، بعدما طفّشه نظام الأسد من دمشق. خاشقجي مثقف مقرَّب من دوائر الحكم، يرجو إصلاحها، ومقرَّب أيضاً من الإخوان المسلمين؛ يقول ما لا يقوله آخرون ويكتب. لكن رؤيته تطوّرت ربما، أو اشتدت القبضة مع محمد بن سلمان، فصار الإخضاع يتم بالسجن، فيما المنفى جريمة موصوفة، عقابها الخطف. انه المثقف الليبرالي، الفرد، الإسلامي، ذو المسار المضطرب. ومهما اختلفنا معه، سواء بإسلاميته أو بإصلاحيته، أو بتقرِّبه من دوائر الحكم، أو غرابته عن نموذج المعارِض المشرقي.. لا يسعنا سوى اعتباره شهيداً، دفع أغلى أثمان الحرية؛ حريته هو في قول وكتابة ما يعتقده صحيحاً، وحَكَمه ضميره، فالشهيد هو من يضحّي بحياته من أجل ما يعتقد، هو أيضاً، أنه صحيح.
كأن السلطات السعودية المعنية بأمر القمع "طوَّرت" أساليبها منذ تولي محمد بن سلمان مقاليد الحكم. من حجز رئيس وزراء لبنان سعد الحريري منذ سنة، وإرغامه على الاستقالة، أو حبس الأمراء الأثرياء في فندق فخم، وانتزاع أموال من خزائنهم الفائضة، ضمن توجه اقتصادي "جديد".. إلى ما حصل مع خاشقجي وما سبقه ولازَمه من اعتقالاتٍ ومصائر يعلم الله وحده بخواتيمها. وكلها وقائع لم يتركوا معها مجالاً للبراءة. إنه النهج الملحاح المتهور، لا تهمّه "صورته"، لشدّة صلافته. وباسم ماذا؟ لا شيء، ولا حتى حجة "نبيلة" يمكن التفاخر بها. خلافاً لخصوم المملكة الذين يقتلون باسم "الحرب على الإرهاب"، أو "حماية" المقامات الدينية، أو الأقليات.. إلخ. للسعوديين في هذه الوقائع فضل الصدق في رفسهم العلني كل ما يتعلق بحرية التعبير والحق بالحياة.
كانت لشبكات المافيا الإيطالية لائحة شفهية لبروتوكولات القتل، تحدّد معاني القتل حسب طُرقه، فالخصم يُقتل شنقاً، بحبل رفيع، أو رمياً من نافذة عالية، أو إغراقا في النهر أو البانيو، أو
انظُر الآن، العالم الغربي، المفترَض أنه المعني بحرية التعبير، عكس الصين وروسيا مثلا، وهما العظيمتان اللتان لم تكترثا بالأساس لموضوع خاشقجي كله. آلتاهما الإعلامية المضبوطة اشتغلتا على ذلك. إذن، الغرب المعني بالقضية، بماذا طلع علينا حتى الآن؟ بعدما خجل قادته من الوزن الإعلامي الذي يتمتع به الرجل؟ تكلم الأوروبيون بإنشائية عالية كالعادة، والأميركيون بدرجة أعلى، ربما لأن خاشقجي عاش على أرضهم وكتبَ في صحافتهم.. ولكن، ثمة دائماً "لكن" ما في الوقائع الحيّة. ماذا يقول دونالد ترامب؟ ماذا يقول إيمانويل ماكرون؟ ماذا لا تقوله أنجيلا ميركل؟ حقاً يجب توضيح ملابسات اختفاء خاشقجي. ولكن بخصوص عقوباتٍ من نوع وقف صفقات السلاح، فلا، وألف لا. ترامب هو الأكثر صراحة وتكراراً، يعِدنا بأنه سوف يدرس المسألة "بكثير جداً من الجدّية"، ولن يعلّق صفقات السلاح مع السعودية، وإلا، سوف يكون "كمن يعاقب نفسه"، بالتسبّب بعودة نِسَب البطالة إلى الارتفاع. المحتَمل بالعكس، أن يستفيد الغرب من الركاكة التي اتسمت بها جريمة قتل خاشقجي، بأن يبتز السعودية في هذه أو تلك من المسائل الكبيرة أو الصغيرة، وقد تُحلّ العقدة كلها بإيجاد كبش المحرقة المفيد. إنه الابتزاز: تلك هي العقوبة التي يعدِنا ترامب بأنه سوف يلحقها بالسعودية، وستكون "قوية وعظيمة".
عندما سقطَ الاتحاد السوفياتي سقط النموذج الحيّ للاشتراكية، ولو الناقص، بضربات الموت
يرسم جمال خاشقجي، بما تعرّضَ له، صورة جديدة للمثقف الخليجي. لا هو المرهّف المتنعِّم برخاوة العيش، ولا هو ناصر السعيد، اليساري السعودي الذي خطفته السعودية من بيروت عام 1979، في عزّ الحرب الأهلية؛ وكان السعيد قد تبنّى بيروت المقاومة الفلسطينية ملاذاً لثورته، بعدما طفّشه نظام الأسد من دمشق. خاشقجي مثقف مقرَّب من دوائر الحكم، يرجو إصلاحها، ومقرَّب أيضاً من الإخوان المسلمين؛ يقول ما لا يقوله آخرون ويكتب. لكن رؤيته تطوّرت ربما، أو اشتدت القبضة مع محمد بن سلمان، فصار الإخضاع يتم بالسجن، فيما المنفى جريمة موصوفة، عقابها الخطف. انه المثقف الليبرالي، الفرد، الإسلامي، ذو المسار المضطرب. ومهما اختلفنا معه، سواء بإسلاميته أو بإصلاحيته، أو بتقرِّبه من دوائر الحكم، أو غرابته عن نموذج المعارِض المشرقي.. لا يسعنا سوى اعتباره شهيداً، دفع أغلى أثمان الحرية؛ حريته هو في قول وكتابة ما يعتقده صحيحاً، وحَكَمه ضميره، فالشهيد هو من يضحّي بحياته من أجل ما يعتقد، هو أيضاً، أنه صحيح.