كانت بدايات الفنان التشكيلي التونسي خالد بن سليمان (1951) مع الخزف، وهو الذي تخرّج من "المعهد التكنولوجي للفنون والعمارة والتعمير" في تونس العاصمة، ثم أكمل تحصيله في برشلونة، قبل أن يبتعد في إقامات فنية طويلة في اليابان وإيران والهند والباكستان.
في معظم أعماله، نعثر على إشارات يستلهمها من موروث صوفي فلسفي سواء في عناصر الطبيعة الأربعة؛ التراب والماء والهواء والنار، أو تأملاته في شواهد القبور، أو في عبارات يتكرر ظهورها في أعماله، كما في معرضه الجديد "معمار للظل.. خطاب رسمي للضوء" الذي يحتضنه "غاليري المرسى" بالقرب من تونس العاصمة حتى التاسع عشر من الشهر الجاري.
يواصل بن سليمان تقديم هذه العلامات على نحو تجريدي في إحالة إلى باطنها وجوهرها اللامكاني واللازماني، حيث يضمّ المعرض عملاً خزفياً يقترب من شكل المسجد أو ضريح أحد الأولياء الصالحين نُقش عليه "هو" التي تتكرر على جدرانه ومئذنته مشيرة إلى ثيمة عشق الذات الإلهية في الرحلة الصوفية.
ويحاكي في سلسلة أعمال أخرى تعد امتداداً لمعرض سابق تلك الطريقة الاحتفالية بالكون لدى الصوفيّ، وهو يهتف "يا لطيف يا لطيف يا لطيف"، والتي تظهر مكتوبة بخطوط سوداء غليظة ورسوم مستديرة لولبية كأنها تدل على تلك الحياة السرمدية التي لا تتعيّن بدايتها ولا تُعلم نهايتها، كما تحضر الأرقام والإشارات المأخوذة من علم الفلك بما تحمله من غموض وإيلاج في القادم المجهول.
هكذا تنوّعت تجربة التشكيلي التونسي، وكان قد بدأها بتوظيف الرسم الخطي المتّبع في تحرير مواثيق الإرث المختومة بأقلام العدول وعقود البيع والزواج، ثم أدخل شيئاً فشيئاً علاقات جديدة بين الألوان والعلامات تتعدّد مصادرها الحضارية.
هكذا تبدو مجموعاته نسقاً يؤلّف بين مرجعيات تراثية عديدة، لكنها تتشكّل في فضاء جديد على الأطباق والأقداح والأشكال الأسطوانية ضمن تركيبة من رسوم مبسطة وخطوط منسابة مكثّفة تشير إلى حالة الترحال الوجودي في الكون، وإلى ذلك التنقّل بين الحياة والموت عبر المرور بحالات البرزخ التي يأتي الفن كأنه تمثيل حيّ لها.
وفي الوقت نفسه، فإن النقوش والكتابات التي طُبعت على نحو عفوي وتلقائي تجد تقاطعاتها الواضحة مع اتجاهات عديدة في الفن المعاصر سواء في خطوط الفنان الإسباني أنطوني تابيس أو مدرسة التجريد الأميركية، لكنها هنا تغرف من حضورها وتجسيدها الروحاني اللامتناهي حتى في استخدام الفنان لتلك المجسمات حادّة الحواف في أشكالها المخروطية والمكعبة ومدببة الزوايا.
يحتمل المعرض قراءات عديدة تتجاوز الشحنة الأولى التي تصل كأنها "مسّ بتيار كهربائي"، بحسب توصيف الفنان الجزائري رشيد قريشي لتجربة بن سليمان، فثمة ما يمنح الخزف ما هو أبعد من وظيفته الجمالية التقليدية ويمكّنه من استيعاب جميع هذه المرجعيات المعرفية والفلسفية في حضورها النهائي.