طارد الإرهابيون العم مبروك في الجزائر العاصمة، عندما كان مقاولاً، فبات سائق أجرة في الصحراء، ما وضعه أمام إرهاب من نوع آخر، إرهاب الطرقات
بعدما وضعت سنوات العنف والرصاص في الجزائر أوزارها اقترحت بعض الأصوات فكرة تشييد تمثال للسائق المجهول، على غرار تمثال الجندي المجهول، بالنظر لما بذلته هذه الشريحة من جهود كي تبقى الخطوط موصولة بين أبناء البلاد.
يومها كان قطع الرؤوس عادة يومية لدى الجماعات المسلحة في الطرقات القصيرة والطويلة، حتى إنّ من يخوضها لم يكن يعلم هل يخرج منها سالماً، أم يُعثر على جثته معلقة في شجرة. التمثال بقي حلماً، بالنسبة للآلاف من سائقي الأجرة ونقاباتهم.
في تلك الفترة كان العم مبروك لبهيات يقيم في الجزائر العاصمة. السائق المعروف بـ"السيس" أي رقم 6 بالفرنسية، لأنّ كلّ السيارات التي امتلكها حملت هذا الرقم، كان يعمل مقاولاً في مجال البناء، ينجز مشاريع للمؤسسات الرسمية، ويطمح إلى أن ينمّي رأسماله: "حتى أصبح مقاولاً كبيراً، وأضمن مستقبلاً جيّداً لأسرتي التي بدأت تكبر".
غير أنّ الجماعات المسلّحة كانت تضع المقاولين ضمن قائمة الأشخاص الذين تبتزهم مالياً كي يبقوا أحياء، أو تقتلهم إذا كانوا يضمنون مشاريع مهمة للحكومة التي تعاديها. يقول: "شرعوا في إقلاق راحتي وبرمجتي على الخوف اليومي، فلم أعد قادراً على متابعة مشاريعي، ما أثر في سير الأعمال". يضيف: "في لحظة ما تصبح حياتك أهمّ لديك من الثروة والالتزامات المهنية".
في لحظة ما من عام 1997 قرر السيس أن يتخلى عن حلم المقاول الكبير، وينتقل إلى مدينة وادي سوف (600 كيلومتر جنوب شرق العاصمة)، لأنها كانت آمنة، و"لأنها قريبة من حيث لهجتها وعاداتها من تونس التي ولدت فيها عام 1953، فكأنني أردت العودة إلى طفولتي".
يقرّ السيس بقسوة الأشهر الأولى في بيئته الجديدة: "لم أعتد على البطالة والبقاء في البيت، ولم تبق لي ثروة أجدّد بها حلم المقاولة، فكان الأسهل عليّ أن أصبح سائق أجرة للمسافات البعيدة، فبدأت السعي إلى شراء سيارة مناسبة والحصول على الرخصة من السلطات، وهي نفسها خطوة كانت متعبة ومكلفة يومها".
لم يكن السيس يعلم أنّه بهذه الخطوة قد وضع نفسه في طريق الخوف والموت الذي هرب منه مجدداً. "ما إن مرّت بضعة أيام حتى اكتشفت أنّ الطريق مفخخ، وأنني قد أخسر حياتي في أي لحظة. كنت أقلّ الركاب إلى مدن ساخنة أمنياً، مثل تبسة وعنابة والجزائر العاصمة، بالرغم من أنّ نهاية التسعينيات كانت أرحم بكثير من بداياتها".
اقــرأ أيضاً
بعدما وضعت سنوات العنف والرصاص في الجزائر أوزارها اقترحت بعض الأصوات فكرة تشييد تمثال للسائق المجهول، على غرار تمثال الجندي المجهول، بالنظر لما بذلته هذه الشريحة من جهود كي تبقى الخطوط موصولة بين أبناء البلاد.
يومها كان قطع الرؤوس عادة يومية لدى الجماعات المسلحة في الطرقات القصيرة والطويلة، حتى إنّ من يخوضها لم يكن يعلم هل يخرج منها سالماً، أم يُعثر على جثته معلقة في شجرة. التمثال بقي حلماً، بالنسبة للآلاف من سائقي الأجرة ونقاباتهم.
في تلك الفترة كان العم مبروك لبهيات يقيم في الجزائر العاصمة. السائق المعروف بـ"السيس" أي رقم 6 بالفرنسية، لأنّ كلّ السيارات التي امتلكها حملت هذا الرقم، كان يعمل مقاولاً في مجال البناء، ينجز مشاريع للمؤسسات الرسمية، ويطمح إلى أن ينمّي رأسماله: "حتى أصبح مقاولاً كبيراً، وأضمن مستقبلاً جيّداً لأسرتي التي بدأت تكبر".
غير أنّ الجماعات المسلّحة كانت تضع المقاولين ضمن قائمة الأشخاص الذين تبتزهم مالياً كي يبقوا أحياء، أو تقتلهم إذا كانوا يضمنون مشاريع مهمة للحكومة التي تعاديها. يقول: "شرعوا في إقلاق راحتي وبرمجتي على الخوف اليومي، فلم أعد قادراً على متابعة مشاريعي، ما أثر في سير الأعمال". يضيف: "في لحظة ما تصبح حياتك أهمّ لديك من الثروة والالتزامات المهنية".
في لحظة ما من عام 1997 قرر السيس أن يتخلى عن حلم المقاول الكبير، وينتقل إلى مدينة وادي سوف (600 كيلومتر جنوب شرق العاصمة)، لأنها كانت آمنة، و"لأنها قريبة من حيث لهجتها وعاداتها من تونس التي ولدت فيها عام 1953، فكأنني أردت العودة إلى طفولتي".
يقرّ السيس بقسوة الأشهر الأولى في بيئته الجديدة: "لم أعتد على البطالة والبقاء في البيت، ولم تبق لي ثروة أجدّد بها حلم المقاولة، فكان الأسهل عليّ أن أصبح سائق أجرة للمسافات البعيدة، فبدأت السعي إلى شراء سيارة مناسبة والحصول على الرخصة من السلطات، وهي نفسها خطوة كانت متعبة ومكلفة يومها".
لم يكن السيس يعلم أنّه بهذه الخطوة قد وضع نفسه في طريق الخوف والموت الذي هرب منه مجدداً. "ما إن مرّت بضعة أيام حتى اكتشفت أنّ الطريق مفخخ، وأنني قد أخسر حياتي في أي لحظة. كنت أقلّ الركاب إلى مدن ساخنة أمنياً، مثل تبسة وعنابة والجزائر العاصمة، بالرغم من أنّ نهاية التسعينيات كانت أرحم بكثير من بداياتها".
يقول السيس إنّ سيارات الأجرة كانت تحمل أشخاصاً مشبوهين من غير أن يتفطن السائق إلى ذلك، وعادة ما تكشف مفاجآت الطريق عن هويات غير مرغوب فيها: "كان الإرهابيون يفضلون سيارة الأجرة، فهي أقل شبهة في الحواجز الأمنية، لكن إذا جرى اكتشافهم، فإنّ السائق يصبح في حكم المتواطئ، بالرغم من أنّ القانون لم يكن يعطيه الحق في معاينة بطاقات الركاب، كما أنّ البطاقات كانت تُزوّر أصلاً".
يتابع: "في المقابل، كان يركب معي الجنود النظاميون في زي مدني، وإذا اكتشفوا في الحواجز المزيفة، والتي كان الإرهابيون يقيمونها في هيئة رجال أمن، فإنني أصبح مشبوهاً لديهم. أرأيت مثل هذا الوضع، أن تكون متهماً من الطرفين؟". يضيف: "كنت أتحايل على الركاب في الطريق، بهدف معرفة هوياتهم الحقيقية، عبر فتح نقاشات مختلفة، لكن الجزائريين لم يكونوا يميلون إلى الحديث بسبب الخوف، عكس ما هو حاصل الآن".
يتذكّر السيس إحدى المصائب التي تعرّض لها: "كنت ذاهباً من وادي سوف إلى مدينة تبسة شمالاً على الحدود التونسية، وما إن بلغنا أحد الجبال، حتى طلب مني أحد الركاب أن أتوقف، بحجة أنه يحسّ بضيق في التنفس، لكنه انطلق راكضاً إلى أعماق الجبل، وهو يطلق عبارات يصفنا فيها بالكفار". يتوقف عن الكلام كأنه يعيش اللحظة نفسها ثم يتابع: "تجمدت الدماء في عروقنا، ولم نجد غير إطلاق العنان للسيارة، فقد تطلع لنا جماعة مسلحة وتقضي علينا، من غير أن يجرؤ أحدنا على التعليق، خوفاً من أن يكون في السيارة شبيه له".
خوف آخر كان يطارد السيس وأبناء مهنته، هو الخوف من حوادث المرور. يشرح: "لم تكن الطرق الجزائرية معبّدة وواسعة كما هي اليوم، وكانت مفاصل كثيرة منها تشكّل مشانق حقيقية. أنا نفسي عشت تجربتين قاسيتين؛ مرة انقلبت فيها مركبتي، ومرة اصطدمت بمركبة أخرى، فخسرت اثنين من ركابي. صعب على سائق الأجرة أن يموت راكب معه، لأنّه يشعر أنّه كان سبباً في ذلك".
قبل انتفاضة ليبيا عام 2011، قرّر السيس أن يجرّب طريق ليبيا: "كانت الحركة بين الجزائر وليبيا قوية، فآلاف الجزائريين كانوا يقصدون ليبيا للاستفادة من الوظائف المتوفرة هناك، وآلاف الليبيين كانوا يدخلون الجزائر لشراء السلع المتوفرة والرخيصة. لكنّ الأوضاع الأمنية الأخيرة جعلت ذلك كلّه في خبر كان".
لدى السيس تسعة أبناء وبنات كبروا جميعاً بعيداً عن عينيه: "أعمل يومين وأرتاح يوماً، وعادة ما كنت أغادر البيت وأعود إليه وهم نائمون، فكانت أمهم تتولى مكاني في تربيتهم". يعلق: "خبزة سائق التاكسي مُرّة".
اقــرأ أيضاً
يتابع: "في المقابل، كان يركب معي الجنود النظاميون في زي مدني، وإذا اكتشفوا في الحواجز المزيفة، والتي كان الإرهابيون يقيمونها في هيئة رجال أمن، فإنني أصبح مشبوهاً لديهم. أرأيت مثل هذا الوضع، أن تكون متهماً من الطرفين؟". يضيف: "كنت أتحايل على الركاب في الطريق، بهدف معرفة هوياتهم الحقيقية، عبر فتح نقاشات مختلفة، لكن الجزائريين لم يكونوا يميلون إلى الحديث بسبب الخوف، عكس ما هو حاصل الآن".
يتذكّر السيس إحدى المصائب التي تعرّض لها: "كنت ذاهباً من وادي سوف إلى مدينة تبسة شمالاً على الحدود التونسية، وما إن بلغنا أحد الجبال، حتى طلب مني أحد الركاب أن أتوقف، بحجة أنه يحسّ بضيق في التنفس، لكنه انطلق راكضاً إلى أعماق الجبل، وهو يطلق عبارات يصفنا فيها بالكفار". يتوقف عن الكلام كأنه يعيش اللحظة نفسها ثم يتابع: "تجمدت الدماء في عروقنا، ولم نجد غير إطلاق العنان للسيارة، فقد تطلع لنا جماعة مسلحة وتقضي علينا، من غير أن يجرؤ أحدنا على التعليق، خوفاً من أن يكون في السيارة شبيه له".
خوف آخر كان يطارد السيس وأبناء مهنته، هو الخوف من حوادث المرور. يشرح: "لم تكن الطرق الجزائرية معبّدة وواسعة كما هي اليوم، وكانت مفاصل كثيرة منها تشكّل مشانق حقيقية. أنا نفسي عشت تجربتين قاسيتين؛ مرة انقلبت فيها مركبتي، ومرة اصطدمت بمركبة أخرى، فخسرت اثنين من ركابي. صعب على سائق الأجرة أن يموت راكب معه، لأنّه يشعر أنّه كان سبباً في ذلك".
قبل انتفاضة ليبيا عام 2011، قرّر السيس أن يجرّب طريق ليبيا: "كانت الحركة بين الجزائر وليبيا قوية، فآلاف الجزائريين كانوا يقصدون ليبيا للاستفادة من الوظائف المتوفرة هناك، وآلاف الليبيين كانوا يدخلون الجزائر لشراء السلع المتوفرة والرخيصة. لكنّ الأوضاع الأمنية الأخيرة جعلت ذلك كلّه في خبر كان".
لدى السيس تسعة أبناء وبنات كبروا جميعاً بعيداً عن عينيه: "أعمل يومين وأرتاح يوماً، وعادة ما كنت أغادر البيت وأعود إليه وهم نائمون، فكانت أمهم تتولى مكاني في تربيتهم". يعلق: "خبزة سائق التاكسي مُرّة".