29 أكتوبر 2024
خرج حزب الله ولم يعد
بعد أن مضى إلى أبعد مما كان مقدراً لمليشيا محدودة الموارد البشرية أن تبلغه، وجرى طويلاً وراء وهم حسم عسكري متعذّر، حتى على قوى دولية كبيرة، وأخرى إقليمية وازنة، وبعد أن وصل، أخيراً، إلى أقصى الشمال السوري، متعجلاً خوض المعركة الاستراتيجية الحاسمة، أدرك حزب الله، على ما يبدو، أنه يطارد خيط دخان، وأنه ليس بالإمكان أفضل مما كان، وفوق ذلك إنه آن أوان تقليل حجم الخسائر الباهظة، بعد أن عزّ تحقيق الأرباح المستهدفة في الموازنة التقديرية.
لم يكن هذا الاستنتاج متاحاً للمراقبين، قبل معركة حلب أخيراً، وما كان لهذه المقاربة الحذرة أن تبرّر نفسها، لولا الخطاب الأخير لزعيم حزب الله، الذي ألقاه، من خلال شاشة عرض عملاقة، من بلدة بنت جبيل التي سبق أن القى فيها حسن نصر الله، قبل عشر سنوات، خطاب بيت العنكبوت الشهير، وتحدّث فيه مطولاً عن وهن إسرائيل، وبشر بزوالها في أول معركة مقبلة.
ومع أن قلةً من الناس التي كانت، فيما مضى، تترقّب إطلالات من كان يعرف باسم سيد المقاومة، التفت إلى هذا الخطاب، شأن ما درجت عليه الأكثرية إزاء خطابات نصر الله العنترية السابقة، إلا أن وسائل الإعلام اللبنانية المحترفة تولت القيام بمهمة تبليغ المهتمين بفحوى الكلام الصادم لجمهور الحزب ومعارضيه معاً، ونشر ملخص وافٍ له، يغني عن تعذيب النفس بالاستماع إلى قليل من الكلام المفيد.
عشية خطاب الذكرى العاشرة لانتهاء حرب العام 2006، كانت التوقعات التي روّجها إعلام "المقاومة والممانعة" تعد أن حسن نصر الله سيقول إن شيئاً دراماتيكياً لم يقع في حلب، وإن تقدّم المعارضة السورية محض كلام فارغ، وإن بشائر النصر الإلهي الجديد تهل من المحطة ما قبل الأخيرة على طريق القدس، بعد أن تم دحر عملاء إسرائيل وأميركا، من تكفيريين
وإرهابيين، ومن لف لفهم. غير أن المفاجأة التي أوقعت أنصار حزب الله في متاهة حيرةٍ أشد من التي رانت على خصومه، تمثلت في إغفال خطيب المنبر المفوّه، وتغاضيه التام، عن العنوان الذي من أجله أتى الحضور المتلهف، في هذه اللحظة النازفة، للاستماع إلى كلام قاطع في الصميم، فبدا الرجل الذي لاحظ مراقبون أنه كان كثير التعرّق والتلعثم والتوتر في أثناء الخطاب، غرائبي الأطوار، يتحدث خارج النص، مفتقراً إلى قدرته السابقة على جذب الانتباه.
لم يكن الأمر سهواً أو محض مصادفة، أن يتغافل زعيم حزب الله عن ذكر معركة حلب، وأن يتحاشى التحدث عنها من قريبٍ أو بعيد، بعد أن خذلته تقديراته المتفائلة بالأمس، ونزفت قواته كما لم تنزف من قبل، وجرت مياهٌ كثيرةٌ تحت جسور عديدة في أنهار عواصم كبيرة، أوضحت له أن المأزق الذي كان شديداً قد اشتد أكثر من قبل، وأن الحرب الطويلة ستطول إلى أجل لم يتوقعه أحد.
وأحسب أن الحقائق الميدانية الرهيبة، وحالة الاستعصاء السورية المديدة، وجملة طويلة من الأوهام الجميلة، قد تبدّدت على حين غرة، فأوصلت زعيم حزب الله إلى إجراء مراجعة صامتة لافتراضاته الحربية والسياسية السابقة، أفضت به، ربما، إلى إعادة تقدير الموقف من جديد، وحمله على أخذ وقتٍ مستقطعٍ قد يطول، لفحص الخيارات المتاحة، وتوزين البدائل الممكنة، على ضوء أكلاف حربٍ ثقيلة الوطأة، تبدو بلا نهاية مرئية.
وقد لا يكون من المبالغة القول إن حسن نصر الله كان يغالب شعوراً ممضّاً بالخذلان والحرج، وكان يجهد في إخفاء أمرٍ ما، طرأ في الآونة الأخيرة، يصعب الجهر به أمام الملأ، ومكاشفة بيئته الاجتماعية بمضاعفاته المستقبلية، والاستمرار في تحميل حاضنته التي ألقى عليها الحزب القابض على أقدارها وأنفاسها ورقاب أبنائها، دوراً أكبر من طاقتها البشرية والمادية والأخلاقية، وحولها إلى مجرد كتيبة إيرانية غب الطلب.
ولعل غياب معركة حلب عن خطاب حسن نصرالله، وامتناعه عن شن هجومه الضاري المعتاد على السعودية، واستدارته الكاملة، من الإسراف والمبالغة في توصيف أعدائه بكل ما يحط من قدرهم، إلى ملاينة الخصوم اللدودين، وحثهم جهاراً نهاراً على عقد المصالحات والتسويات، بمن فيهم "داعش" وجبهة النصرة، هو خير دليل على أن زعيم حزب الله عالق في قعر أزمة عميقة، وأنه في تلك الإطلالة بات مرتبكاً بشدة.
ومن غير أن نسرف في التوقعات، ومع تجنب إجراء القراءات الرغائبية إلى أبعد حد ممكن،
فإن من المرجح أن انقلاب حسن نصر الله على حسن نصر الله لم يكن وليد لحظةٍ عابرة، أو أنه وقع جرّاء حالة تشاؤم مؤقتة، وإنما هو انقلاب أملته المتغيرات الموضوعية الصلبة، وفرضته فرضاً سيولة التوازنات العسكرية المتبدلة بين يومٍ وآخر، وفي مقدمتها نتائج معركة حلب المعمقة للجراحات، والكاشفة للأوزان والتحولات المتسارعة.
ولن تفوت عين المراقب الحصيف، وهو يقرأ المشهد السياسي الأوسع، ويعيد قراءة خطاب حسن نصر الله في ضوء ما يتيسر من تفاعلات مخاضٍ جارٍ في أوساط الطائفة المختطفة في لبنان، أن يرى بعين العقل مدى عمق الجرح النازف الذي بات يوجع مجتمعاً صغيراً ومنفتحاً، لديه حساسية مفرطة إزاء خسائره البشرية، أكثر مما هو عليه حال مجتمعات مماثلة ومغلقة، لا بالحق في الحياة، كما في العراق وإيران مثلاً.
إزاء ذلك كله، يصح القول، بدرجة كبيرة من الثقة، إن الثقب الأسود في سورية كاد يبتلع حزب الله شحماً ولحماً، بعد أن أخذ منه التدخل إلى جانب الطاغية، سمعة الحزب الذهبية السابقة، وقوّض صورته الباذخة في أذهان الكافة، يوم أن كان رأس حربة المقاومة، فبدا هذا الحزب ذو الوجه المذهبي الشائن اليوم بلا بريق، ضائعاً ضياع ولد صغير خرج من عتبة باب دار أهله، وتاه في زخمة المدينة الكبيرة، الأمر الذي يمكن القول معه إن حزب الله خرج ولم يعد.
لم يكن هذا الاستنتاج متاحاً للمراقبين، قبل معركة حلب أخيراً، وما كان لهذه المقاربة الحذرة أن تبرّر نفسها، لولا الخطاب الأخير لزعيم حزب الله، الذي ألقاه، من خلال شاشة عرض عملاقة، من بلدة بنت جبيل التي سبق أن القى فيها حسن نصر الله، قبل عشر سنوات، خطاب بيت العنكبوت الشهير، وتحدّث فيه مطولاً عن وهن إسرائيل، وبشر بزوالها في أول معركة مقبلة.
ومع أن قلةً من الناس التي كانت، فيما مضى، تترقّب إطلالات من كان يعرف باسم سيد المقاومة، التفت إلى هذا الخطاب، شأن ما درجت عليه الأكثرية إزاء خطابات نصر الله العنترية السابقة، إلا أن وسائل الإعلام اللبنانية المحترفة تولت القيام بمهمة تبليغ المهتمين بفحوى الكلام الصادم لجمهور الحزب ومعارضيه معاً، ونشر ملخص وافٍ له، يغني عن تعذيب النفس بالاستماع إلى قليل من الكلام المفيد.
عشية خطاب الذكرى العاشرة لانتهاء حرب العام 2006، كانت التوقعات التي روّجها إعلام "المقاومة والممانعة" تعد أن حسن نصر الله سيقول إن شيئاً دراماتيكياً لم يقع في حلب، وإن تقدّم المعارضة السورية محض كلام فارغ، وإن بشائر النصر الإلهي الجديد تهل من المحطة ما قبل الأخيرة على طريق القدس، بعد أن تم دحر عملاء إسرائيل وأميركا، من تكفيريين
لم يكن الأمر سهواً أو محض مصادفة، أن يتغافل زعيم حزب الله عن ذكر معركة حلب، وأن يتحاشى التحدث عنها من قريبٍ أو بعيد، بعد أن خذلته تقديراته المتفائلة بالأمس، ونزفت قواته كما لم تنزف من قبل، وجرت مياهٌ كثيرةٌ تحت جسور عديدة في أنهار عواصم كبيرة، أوضحت له أن المأزق الذي كان شديداً قد اشتد أكثر من قبل، وأن الحرب الطويلة ستطول إلى أجل لم يتوقعه أحد.
وأحسب أن الحقائق الميدانية الرهيبة، وحالة الاستعصاء السورية المديدة، وجملة طويلة من الأوهام الجميلة، قد تبدّدت على حين غرة، فأوصلت زعيم حزب الله إلى إجراء مراجعة صامتة لافتراضاته الحربية والسياسية السابقة، أفضت به، ربما، إلى إعادة تقدير الموقف من جديد، وحمله على أخذ وقتٍ مستقطعٍ قد يطول، لفحص الخيارات المتاحة، وتوزين البدائل الممكنة، على ضوء أكلاف حربٍ ثقيلة الوطأة، تبدو بلا نهاية مرئية.
وقد لا يكون من المبالغة القول إن حسن نصر الله كان يغالب شعوراً ممضّاً بالخذلان والحرج، وكان يجهد في إخفاء أمرٍ ما، طرأ في الآونة الأخيرة، يصعب الجهر به أمام الملأ، ومكاشفة بيئته الاجتماعية بمضاعفاته المستقبلية، والاستمرار في تحميل حاضنته التي ألقى عليها الحزب القابض على أقدارها وأنفاسها ورقاب أبنائها، دوراً أكبر من طاقتها البشرية والمادية والأخلاقية، وحولها إلى مجرد كتيبة إيرانية غب الطلب.
ولعل غياب معركة حلب عن خطاب حسن نصرالله، وامتناعه عن شن هجومه الضاري المعتاد على السعودية، واستدارته الكاملة، من الإسراف والمبالغة في توصيف أعدائه بكل ما يحط من قدرهم، إلى ملاينة الخصوم اللدودين، وحثهم جهاراً نهاراً على عقد المصالحات والتسويات، بمن فيهم "داعش" وجبهة النصرة، هو خير دليل على أن زعيم حزب الله عالق في قعر أزمة عميقة، وأنه في تلك الإطلالة بات مرتبكاً بشدة.
ومن غير أن نسرف في التوقعات، ومع تجنب إجراء القراءات الرغائبية إلى أبعد حد ممكن،
ولن تفوت عين المراقب الحصيف، وهو يقرأ المشهد السياسي الأوسع، ويعيد قراءة خطاب حسن نصر الله في ضوء ما يتيسر من تفاعلات مخاضٍ جارٍ في أوساط الطائفة المختطفة في لبنان، أن يرى بعين العقل مدى عمق الجرح النازف الذي بات يوجع مجتمعاً صغيراً ومنفتحاً، لديه حساسية مفرطة إزاء خسائره البشرية، أكثر مما هو عليه حال مجتمعات مماثلة ومغلقة، لا بالحق في الحياة، كما في العراق وإيران مثلاً.
إزاء ذلك كله، يصح القول، بدرجة كبيرة من الثقة، إن الثقب الأسود في سورية كاد يبتلع حزب الله شحماً ولحماً، بعد أن أخذ منه التدخل إلى جانب الطاغية، سمعة الحزب الذهبية السابقة، وقوّض صورته الباذخة في أذهان الكافة، يوم أن كان رأس حربة المقاومة، فبدا هذا الحزب ذو الوجه المذهبي الشائن اليوم بلا بريق، ضائعاً ضياع ولد صغير خرج من عتبة باب دار أهله، وتاه في زخمة المدينة الكبيرة، الأمر الذي يمكن القول معه إن حزب الله خرج ولم يعد.
دلالات
مقالات أخرى
22 أكتوبر 2024
15 أكتوبر 2024
08 أكتوبر 2024