31 أكتوبر 2024
خريف الغضب اللبناني ربيع مبكر
ما كُتب عن الحراك الشعبي في لبنان يفوق وزناً وعدداً الشعارات التي صدحت بها حناجر الملايين من المتظاهرين التي تعالت، ويضاهي الحشود المتراصة والمتعاضدة في كل النقط والاتجاهات. قد تبدو الكتابة عمّا يجري في لبنان غير مجدية، وعديمة الفاعلية، عندما تتحدّاك عبقرية هذا الشعب، ورغبته القوية في التخلص من نظام سياسي قائم على المحاصصة الطائفية والمذهبية. تصاب اللغة بالعقم والعجز، عندما تنتشر الجماهير مفجرة غضبها، لتكتب على الحيطان وفي الساحات والميادين والعوالم الافتراضية، بالأحمر والأبيض والأخضر، سيرة مترامية الأطراف ومتعدّدة الأبعاد، في سياق وطني محتقن، وفي محيط إقليمي ودولي مضطرب.
ما يحدث في لبنان قناعة جماعية، وتمثّل حاد لعدم تكرار مشاهد البارود والبنادق والطلقات الطائشة والاغتيالات المباغتة وتصفية الحسابات الطائفية والمذهبية والسيارات المفخخة. كانت تلك مشاهد تعكس الوجه الملطخ بجنون القتل، في عز الحرب الأهلية التي تركت ندوباً وجروحاً غائرة في الذاكرة الوطنية اللبنانية. واليوم خرج اللبنانيون بالملايين للبوح برغبة عارمة في تحقيق حلم مشروع، يتمثل في وطن مدني كامل المواطنة، تحكمُه القواعد الديمقراطية، وتضبطه الرهانات المرتبطة بقيام نظام سياسي متحرّر من المعايير والإكراهات الطائفية والمذهبية التي كانت سبباً في إنتاج كوارث وآفاتٍ أصابت المجتمع اللبناني، بكل أطيافه، بالإحباط واليأس وعدم الثقة في طبقة سياسية فاسدة، متخصصة في اغتيال أحلام العدالة والتنمية والديمقراطية والاستقرارالاجتماعي والاقتصادي والوحدة الوطنية.
أرادت اللحظة اللبنانية بالصورة التي ظهرت بها أن تطلق عصافير السلام في كل الاتجاهات،
ليعرش في فضاء الوطن الرحب لبلاب الحب المطرّز بشموس العناقات الممتدة من أقصى لبنان إلى أقصاه، عسى الأطفال يدركون أنهم أطفال، وعسى الشباب يشعر بغبطة الانتماء إلى وطن، وينعم بمكان وشغل ورغيف كريم، وعسى الشيوخ يتنفسون هواءً آخر في جغرافيا سياسية جديدة، وهم في أقصى درجات الطمأنينة إلى أن البلاد لن تحرقها مرة أخرى حربٌ أو عصبية رعناء قد تطلع من بين أنقاض الماضي المرعب. وعسى الشوارع والممرّات المثخنة بالصدمات والتواريخ السوداء تتحاشى الاشتباكات المبرمجة والتلقائية، وعسى الأرض تستعيد بريقها وتوهجها الحضاري، وعسى البحار تستعيد روعتها ونقاءها وملوحتها المغتالة في غسق الرهانات والنعرات الرافضة كل شيء، باستثناء وضع اليد على زناد التهييج والتخوين.
في الماضي القريب، كان لبنان يجسد التراجيديا والأسطورة، الدمعة الحارقة التي ترقرقت من أحداق خريطة ممزقة الأوصال، وتمرّدت على قانون الجمود والاستسلام العام، لتمارس شغبها الحضاري، ولتلعب بألسنة اللهب، تماهياً بالزمن الفلسطيني، ولتذكّرنا جميعاً بطفولة اغتُصبت مبكراً من هذه الأمة.
مهرجانات القتل والذبح وحماقات الحروب وعبثية الرهانات ويافطات الجهاد والجهاد المضاد، أصبحت جزءاً من الماضي، ولكن هشاشة البنية السياسية، وتعقد التركيبة الطائفية، وحساسية التقاطبات المذهبية هي ما تجعل اللبنانيين أشد حرصاً على التمسّك بمطالب نظام سياسي ديمقراطي، يستند إلى المواطنة ومدنية الدولة وربط المسؤولية بالمحاسبة، أي دولة القوانين والمؤسسات التي لا تعترف بالمعاييرالطائفية والمذهبية.
ألق الفعل الثوري الديمقراطي الذي تعيش على إيقاعه اليوم مدن لبنان وبلداته يتمتع بعافيته وصحته الكاملة، فقد تحول إلى وهج يشعّ في كل المناطق وعلى الأصعدة كافة. وأضحى حقولاً من الإبداعات والإنتاجات المميزة التي تسجل نبضات الحراك.
بيروت المكان الرمز، مدينة ما قبل الأساطير وما بعدها تضجّ بما لا يُحصى من آمال وأحلام، وتتطلع إلى تطهير ذاكرة وطنٍ يجهش بالندم، حين يفقد كل شيء، ولا يجد أمامه إلا سلال الرصاص الطائفي التي يتزوّد منها الخائفون من الديمقراطية، دفاعاً عن حلم ضاعت ملامحه في غبش الأوهام. في بيروت سيدة المفاجآت، كل شيء مغاير ومثير للانتباه. الغضب الشعبي يصدح في الشرفات، وعبر فن الغرافيتي والجداريات، ويتصاعد مع بخار فناجين القهوة، ويقيم في الأغاني الوطنية والملتزمة، وفي فضاءات التواصل الاجتماعي تتناسل المطالب وتتكاثر الأحلام. يخرج الناس مدججين بعشق نادر لوطن استثنائي، ليقفوا سداً في وجوه من يريدون إلحاق الأذى بشعبٍ يحترف الفرح، ويتمترس ضد اغتيال الحياة. وهكذا يتحول لبنان إلى خيمة لإيواء الثورة وحمايتها من الانحراف وتحرير جغرافيا الوطن من التضاريس السياسية التي شوهته وأفسدته وعرّته.
الحراك الحالي في أرض الأرز انطلق دون رجعة. والشعب اللبناني، بكل أطيافه وحساسياته
ومرجعياته ومكوناته، مؤمن ومقتنع بضرورة الانصهار في بوتقة القواسم المشتركة، وتوحيد المطالب في المدن والقرى والجبال والسهول، وتوحيد دموع الفرح في الداخل والخارج، لتصير هذه الدموع وطنية بامتياز، لا تشوبها الطائفية والمذهبية والقبلية. وكان في وسع لبنان أن يتحول إلى نموذج ديمقراطي مبكر في المنطقة العربية، وقوة سياسية ذات صدقية، لو اقتنع فيه رموز المذاهب وزعماء الطوائف الدينية والسياسية باقتراح خطة لعلاج أوجاع الوطن واختلالاته من خلال لملمة كل المكونات الطائفية والسياسية والمدنية وتجميعها حول أهداف واحدة ورهانات مشتركة. وهذه المقاربة كفيلة بتوفير شروط بزوغ فجر نظام ديمقراطي، خارج حسابات المحاصصة والريع والامتيازات التي ألفتها الطبقة السياسية المشار إليها بالفساد وعدم الكفاءة والنهب والرشوة والزبونية. وبمقدور هذه المقاربة أن تلغي خطاب التهديد والقوة والعنف والانتقام وتنقضه، وتقبر إلى الأبد الهجومات الليلية والصباحية والمسائية التي تحرص على اختراق أدمغةٍ لمجرّد اختلافها مع مواقف وتصورات معينة.
يبدو الانتقال السياسي في لبنان تمريناً صعباً ومعقداً، وقد يستغرق وقتاً طويلاً. وقد يفرز تداعيات على المستويات كافة، وآثاراً جانبية قد تكون مصحوبةً ببعض الآلام، إلا أن الالتفاف حول مشروع الوطن الديمقراطي، تحت لواء العلم الوطني رمز الوحدة والتماسك، وتوحيد اللغات والخطابات، ونبذ كل أشكال التعصب الطائفي والمذهبي، سيحوّل خريف الغضب اللبناني إلى ربيع مبكر، ستزهر فيه الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وستعلو مواويل المصالحات الحقيقية والتعايش الفعلي، بين مختلف مكونات المجتمع اللبناني، فالحروب والمؤامرات أنهكت لبنان، وشعبه يستخلص العبر من الماضي البعيد والقريب، ليحوله إلى طاقة لانطلاقةٍ جديدة، بنفَس ديمقراطي قوي، قادر على قلب كل المعادلات، لمصلحة وطن آمن ومستقرّ وعادل، يتسع للجميع ويؤمن بالعيش المشترك.
أرادت اللحظة اللبنانية بالصورة التي ظهرت بها أن تطلق عصافير السلام في كل الاتجاهات،
في الماضي القريب، كان لبنان يجسد التراجيديا والأسطورة، الدمعة الحارقة التي ترقرقت من أحداق خريطة ممزقة الأوصال، وتمرّدت على قانون الجمود والاستسلام العام، لتمارس شغبها الحضاري، ولتلعب بألسنة اللهب، تماهياً بالزمن الفلسطيني، ولتذكّرنا جميعاً بطفولة اغتُصبت مبكراً من هذه الأمة.
مهرجانات القتل والذبح وحماقات الحروب وعبثية الرهانات ويافطات الجهاد والجهاد المضاد، أصبحت جزءاً من الماضي، ولكن هشاشة البنية السياسية، وتعقد التركيبة الطائفية، وحساسية التقاطبات المذهبية هي ما تجعل اللبنانيين أشد حرصاً على التمسّك بمطالب نظام سياسي ديمقراطي، يستند إلى المواطنة ومدنية الدولة وربط المسؤولية بالمحاسبة، أي دولة القوانين والمؤسسات التي لا تعترف بالمعاييرالطائفية والمذهبية.
ألق الفعل الثوري الديمقراطي الذي تعيش على إيقاعه اليوم مدن لبنان وبلداته يتمتع بعافيته وصحته الكاملة، فقد تحول إلى وهج يشعّ في كل المناطق وعلى الأصعدة كافة. وأضحى حقولاً من الإبداعات والإنتاجات المميزة التي تسجل نبضات الحراك.
بيروت المكان الرمز، مدينة ما قبل الأساطير وما بعدها تضجّ بما لا يُحصى من آمال وأحلام، وتتطلع إلى تطهير ذاكرة وطنٍ يجهش بالندم، حين يفقد كل شيء، ولا يجد أمامه إلا سلال الرصاص الطائفي التي يتزوّد منها الخائفون من الديمقراطية، دفاعاً عن حلم ضاعت ملامحه في غبش الأوهام. في بيروت سيدة المفاجآت، كل شيء مغاير ومثير للانتباه. الغضب الشعبي يصدح في الشرفات، وعبر فن الغرافيتي والجداريات، ويتصاعد مع بخار فناجين القهوة، ويقيم في الأغاني الوطنية والملتزمة، وفي فضاءات التواصل الاجتماعي تتناسل المطالب وتتكاثر الأحلام. يخرج الناس مدججين بعشق نادر لوطن استثنائي، ليقفوا سداً في وجوه من يريدون إلحاق الأذى بشعبٍ يحترف الفرح، ويتمترس ضد اغتيال الحياة. وهكذا يتحول لبنان إلى خيمة لإيواء الثورة وحمايتها من الانحراف وتحرير جغرافيا الوطن من التضاريس السياسية التي شوهته وأفسدته وعرّته.
الحراك الحالي في أرض الأرز انطلق دون رجعة. والشعب اللبناني، بكل أطيافه وحساسياته
يبدو الانتقال السياسي في لبنان تمريناً صعباً ومعقداً، وقد يستغرق وقتاً طويلاً. وقد يفرز تداعيات على المستويات كافة، وآثاراً جانبية قد تكون مصحوبةً ببعض الآلام، إلا أن الالتفاف حول مشروع الوطن الديمقراطي، تحت لواء العلم الوطني رمز الوحدة والتماسك، وتوحيد اللغات والخطابات، ونبذ كل أشكال التعصب الطائفي والمذهبي، سيحوّل خريف الغضب اللبناني إلى ربيع مبكر، ستزهر فيه الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وستعلو مواويل المصالحات الحقيقية والتعايش الفعلي، بين مختلف مكونات المجتمع اللبناني، فالحروب والمؤامرات أنهكت لبنان، وشعبه يستخلص العبر من الماضي البعيد والقريب، ليحوله إلى طاقة لانطلاقةٍ جديدة، بنفَس ديمقراطي قوي، قادر على قلب كل المعادلات، لمصلحة وطن آمن ومستقرّ وعادل، يتسع للجميع ويؤمن بالعيش المشترك.