خطاب الرمزيات الوطني
قصفت قوات الاحتلال الإسرائيلي موقعاً لحزب الله في القنيطرة، اقتصر رد حزب الله على أشياء صغيرة جدّاً، هي إعلان أسماء الشهداء وبالتصريح التالي: "أعدوا الملاجئ جيداً". هذا ما جاء في التصريح من بين أشياء أخرى، لم تكن في المستوى الكلامي على قدر أهمية ما حدث كما اعتدنا، فما حدث مع الشهيد زياد أبو عين من عملية اغتيال أمر عظيم من دون شك، حتى أن رام الله في تلك الليلة بدت أكثر من متوترة.
تناسب القول مع الفعل عادة عربية بامتياز، وهذا ما قيل لنا طويلاً عن الصادق الأمين وعن العرب، وكل الحكايات الشعبية ما هي إلا تعزيز لصورة العربي الشهم الأصيل، صاحب الخلق العظيم، صاحب الحكاية الأكثر قسوة، والأكثر نهوضاً من الرماد، نحو الحرية القابل للموت، في مقابل الموقف، فكان خطاب حزب الله بمثابة بيان العربي الأصيل في الزمن الحالي، وقد حاولت حركة المقاومة الإسلامية "حماس" تعزيز صورتها تلك، إلا أن أنفاس حماس تبقى دائماً فلسطينية.
تسمع من السياسيين ومن القادة الميدانيين كثيراً، لكن كل الشعب الفلسطيني يصدق أبو عبيدة أكثر مما يصدقون أي قيادي فلسطيني آخر، يعترفون بأبو عبيدة قائداً، على الرغم من أنه من دون هوية حقيقية (لا أحد يعرف شكله أو اسمه)، لأنها الرمزية فقط هي التي تسيطر على عقول الناس وقلوبهم، فأصبح لنا قشة أخرى، نتعلق بها في هذا الغرق، حتى أن كلمة له شهيرة أصبحت مرسومة على الجدران في رام الله بعد أيام فقط، وما كانت صور الضفادع البشرية في غزة في يوم انطلاقة حماس إلا تعزيزاً لرمزية المقاتلين الذين فجروا الدبابة في موقع زكيم خلال العدوان.
في الحديث الفكري الحقيقي السياسي، لا ترى مشاركين كثيرين، أما حديث التراشقات والتلعثمات وتبادل الاتهامات ووضع القضايا جانباً (الجملة المشهورة: حط هاي على جنب) فهو موجود وبكثرة، ويمكن أن تجده في أي مكان وزمان في فلسطين ولبنان والأردن وسورية والعراق (الدول الأكثر احتراقاً)، إلا أن الناس غير قادرة على الاستماع لما يقوله مفكر سياسي واحد حول قضايا فكرية لهذا التنظيم أو الحزب لدقائق، إلا أن الدولة استطاعت أن تصنع لنفسها إطاراً فكريّاً شديد اللسان وقوي السلطة وموجوداً بشكل فيزيائي في كل مكان (الدين) حيث أصبحت المساجد في الضفة الغربية تحصل على نسخة خطبة الجمعة من وزارة الأوقاف. وأظن أن دولاً عربية عديدة تمارس هذا الفعل الأسبوعي، فأصبح الخطاب الرمزي أمام الخطاب السياسي، وأصبح خطاب الرمزيات والاستنهاض العاطفي المزود بالحقائق الميدانية فعلاً كلاميّاً أقوى كثيراً من أي مفكر سياسي، ولأننا نعيش في حالة تشتت رهيبة لن يغفر لنا أولادنا لاحقاً عنها، فإننا نتحاج كثيراً أن نصدق الأسطورة على أن نصدق النظرية، قادرة عقولنا على إنكار المنطقي (غير الموجود أصلاً)، وتصديق الرمزي الموجود منطقيّاً على الأرض، بحيث يحاول الرمزي أن يتحول إلى منطقي، ويندثر المنطقي أمام واقعية رمزية المنطق، وهي البندقية.
في دموية الخطابات الشديدة المنعكسة حروباً في المنطقة بين شيعي وسني ودولة وخلافة وفصيل وتنظيم وثورة ونظام ومقاوم وخائن وشعب واحتلال، وبين أقطار الصراعات في الوطن العربي عموماً، وفي بلادنا نحن خصوصاً، لا يستطيع أمثالي (العاديون) إلا التفكير في أمرين أحلاهما مر: الأول أن نصدق ما يقوله العربي الأصيل سماحة السيد وأن نصدق فيه أمل النجاة الوحيد. الثاني: أن نعد حقائبنا جيداً ونقفل أبواب بيوتنا ونصعد على متن الطائرات نحو كندا، إلا أن فكرة أخرى تخرج من حالة الهرولة على عكازتين، هي أن لا نصدق كل ما يقال لنا عن أنفسنا، ولا ما يقوله قادتنا عنا، ولا ما تقوله الفصائل لنا، ولا بأي شيء يخرج من مفكر سياسي، أو ممارس أو قيادي أو ميداني. ونسعى، نحن العاديين، الذين ننتمي إلى وطن عربي ولأي دين أو عقيدة فيه، إلى عتق رقابنا بأنفسنا من كلِ شيء يحيط بنا، وسيبقى إلى جانبك السياسي الحقيقي، ويرحل فوراً السياسي المزيف إلى كندا أيضاً، ولأن شيئاً بسيطاً حدث، هو أن الخريف لا يبقى سوى الأصل في كل الأشياء وليس فقط الشجر، أما في الربيع فكل أنواع الأشياء قابلة للنمو.