24 مايو 2024
خطاب السيسي في "رؤية مصر": انكشاف الفشل العام
ألقى، في الرابع والعشرين من فبراير/شباط 2016، الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، خطاباً مطولاً بمناسبة ما سماه "إطلاق استراتيجية مصر للتنمية المستدامة، رؤية مصر 2030". وفي الوقت الذي كان كثيرون من مؤيدي النظام السياسي الحاكم في مصر يتوقعون أن يعكس الخطاب مضامين هذه الرؤية وأبعادها، جاء الخطاب يعكس مؤشرات وأبعاداً عديدة شديدة الأهمية، من النواحي السياسية والاقتصادية والاستراتيجية، وهو ما يمكن الوقوف على بعضها، على النحو التالي:
أولاً: الأبعاد السياسية:
عكست نبرة الخطاب والحالة النفسية والعصبية التي ظهر عليها قائد الانقلاب وجود أزمات سياسية حقيقية، يعاني منها النظام السياسي في مصر، في هذه المرحلة، وما يترتب على ذلك من تداعيات:
1ـ الأزمات الداخلية: يعكس الخطاب عمق الأزمات الداخلية، ولعل أهمها، ما تناولته تقارير عديدة من وجود حالة من التذمر السياسي داخل بعض الأجهزة العسكرية والأمنية من الأداء السياسي لقائد الانقلاب وممارساته في السلطة، ترتقي هذه الحالة، عند بعضهم، من التذمر إلى الحديث عن انشقاقات وصراعات داخلية حقيقية، أكدتها مؤشرات، لعل منها لقاءات رئيس الأركان، الفريق محمود حجازي، مع سفراء دول أجنبية وعربية في مصر، وهو دور ليس منوطاً به، أو مسؤولاً عنه.
كذلك تعدد اللقاءات والمقابلات الخاصة التي يقوم بها وزير دفاع الانقلاب، الفريق أول صدقي صبحي، وكبار رجال المؤسسة العسكرية مع أسلحة الجيش المختلفة، لاحتواء حالات عدم الاستقرار ومحاولة تسوية الأزمات الداخلية لديهم، واحتواء صراعاتهم، قبل أن تنفجر وتؤدي إلى إسقاط النظام، خصوصاً وأن هذه المؤسسة هي الركيزة الرئيسة لاستمرار هذا النظام أو انهياره.
2ـ المعارضة السياسية: كشف الخطاب عن وجود نزعة لإلغاء، وليس فقط تهميش، المعارضة السياسية الداخلية للنظام، وهو ما برز في دعوته إلى الأخذ عنه فقط، وسماع كلامه هو فقط. وهنا أقول معارضة، قاصداً بذلك التيارات والقوى والنخب السياسية التي قبلت بمسار "30 يونيو"، وتعاطت مع خطواته ومراحله، وارتضت أن تعمل من داخل نظام "3 يوليو" العسكري، ولا تتضمن هذه التيارات القوى المناهضة أو المقاومة والرافضة لبقاء هذا النظام، وتعمل على إسقاطه. فإذا كان هذا هو توجه رأس النظام نحو من شاركوه ومنحوه نوعاً من الشرعية، فإن الوضع سيكون أشد كارثيةً وتشدداً وقمعاً ضد من يناهضونه ويقاومونه، ويسعون إلى إسقاطه.
3ـ التقييم السياسي: عند حديثه عن الحكومة، قال قائد العسكر: "إنتو هتعرفوا أكتر مني .. الحكومة دي كويسة ولا لا.. وأنا بقعد معاهم كل يوم.. وأنا مش بدافع عن حد.. وهو مسؤول الحكومة بياخد إيه علشان يستحملك وتضرب فيه ليل ونهار وفي الجرائد وغيره". وأضاف: "لو في حاجة عايزة تتعدل هنعدلها، وأرجو إننا نوفر مناخ جيد وحافظوا عليه وشجعوه".
وهذه النصوص وغيرها الكثير مما تضمنه الخطاب ترسخ التوجه نحو تغييب، إن لم يكن تدمير، أية أطر قانونية أو تنظيمية للرقابة والتقييم السياسي لعمل الحكومة، ويكفي أن يقول قائد العسكر إنها جيدة، حتى تكون جيدة، والعكس.
4ـ ترسيخ الهيمنة والديكتاتورية: وهي نتائج طبيعية لتدمير الحياة السياسية، وطبيعة رؤية قائد العسكر للمؤسسات السياسية وكيفية التعاطي معها، وموقفه من القوى والتيارات السياسية الداعمة له. وهذه النزعة إذا كانت الآن في مواجهة المؤسسات السياسية والمدنية، فإنها، مع مزيدٍ من التمكين السياسي، ستكون في مواجهة كل المؤسسات العسكرية والأمنية، والتي ستتحول تدريجياً إلى مجرد أدواتٍ لفرض القمع والهيمنة.
تؤكد ذلك تصريحاته الارتجالية في الخطاب، والتي جاءت بلهجةٍ غاضبةٍ وحادة، حيث أعلن صراحة للجميع: "إما السكوت وتركه يعمل من أجل البلد، كونه الوحيد الذي يعرف ذلك، أو الإبادة من على وجه الأرض نهائياً، معلناً صراحةً إنه لن يترك حكم البلاد في أي ظرف، إلا على جثّته ميتاً أو أن تنتهي ولايته".
ثانياً: الأبعاد الاقتصادية:
كشف خطاب قائد الانقلاب عن أبعاد اقتصاديةٍ عديدةٍ، من شأنها أن تفرز أخطاراً وتهديدات مستقبلية عديدة، لعل في مقدمتها:
1ـ غياب المصداقية: الرؤية الاستراتيجية 2030، التي تم الحديث عنها، وكانت محوراً للمؤتمر، تم نشرها في صحيفة الأهرام الحكومية المصرية في 22 مايو/أيار 2011، وأعيد نشرها قبل أشهر، وبالتالي، لا جديد يقدمه رأس النظام، وهو ما يعكس ما يمكن تسميته "نوعاً من التضليل السياسي"، وهذا ليس جديداً على النظام الحاكم في مصر، بل سبق وتم الإعلان عن خطط ورؤى وتصورات عديدة، ثم يتم الكشف أنها كانت لنظم سابقة.
2ـ المشروعات الوهمية: يدفع المضمون العام للخطاب، المكتوب والمرتجل، باتجاه ترسيخ فرضية المشروعات الوهمية التي يتم ترويجها بين حين وآخر، سواءً بإطلاق مشروعاتٍ، لا تتفق والواقع الاقتصادي المصري في هذه المرحلة، وما يشهده من انهياراتٍ وأزمات، أو بالقول إن هناك إنجازات تحققت بالفعل على أرض الواقع. ولكن، لا يتم الإعلان عنها خوفاً، كما قال قائد الانقلاب، في خطابه من "الأشرار".
3ـ الدعم الخارجي (الخليجي): كشف الخطاب عن وجود أزمة حقيقية في العلاقة بين النظام العسكري الحاكم في مصر وداعميه الخارجيين، وهو ما تم الوقوف عليه من إشارة قائد الانقلاب إلى وجود "من يُعاير مصر بفقرها"، ثم تأكدت الأزمة بعد أقل من 48 ساعة من الانتهاء من الخطاب، مع تعدّد التقارير الإعلامية عن رفض المملكة العربية السعودية تمويل مشروعاتٍ قدمتها حكومة الانقلاب لحكومة المملكة، في إطار المجلس التنسيقي المصري ـ السعودي، للحصول على ما سبق وأعلنت عنه المملكة من رفع قيمة استثماراتها في مصر إلى 30 مليار ريال سعودي.
وذهب بعضهم إلى أن أسباب الرفض قد تكون اقتصادية بالأساس، وتتعلق بمعيار الربحية التي يمكن تحقيقها من هذه المشروعات، خصوصاً مع الأزمة الاقتصادية الكبيرة التي تمر بها السعودية، جراء الانخفاض الكبير في أسعار النفط، إلا أن البعد السياسي غير غائب على خلفية موقف النظام العسكري الحاكم في مصر من إعلان السعودية رغبتها في تدخل عسكري في سورية.
4ـ الاستنزاف الاقتصادي للمصريين: رسخ خطاب عبد الفتاح السيسي توجهات نظام "3 يوليو" في استنزاف كل القدرات الاقتصادية والمادية للمواطنين، والتي ظهرت بقوة في توجيه المواطنين مدخراتهم في مشروع تفريعة قناة السويس، ثم ظهور دعوات إلى التبرع بفوائد هذه المدخرات، بل ومطالبة بعضهم بالتبرع بأصول هذه المدّخرات، ثم جاءت خطوة أخرى للاستنزاف، من دون رقابة أو محاسبة، تحت مسمّى "صندوق تحيا مصر"، ثم جاءت الخطوة الجديدة في خطاب قائد العسكر، محل التحليل، وتمثلت فيما أسماها إعلامه "مبادرة صبّح على مصر بجنيه"، وهي امتداد لتصريحات سابقة لقائد العسكر، عندما كان وزيراً للدفاع، وأعلن فيها أنه سيفرض على شبكات المحمول تعريفة للمرسل والمستقبل.
ثالثاً: الأبعاد الاستراتيجية:
جاء الخطاب كاشفاً عن تحديات وأخطار استراتيجية عديدة، ترتبط ليس فقط بالأمن القومي المصري، ولكن بالأمن القومي للمنطقة، ومن ذلك:
1ـ قضية الإرهاب: كشف خطاب قائد النظام العسكري عن دور فاعل في تنامي ظواهر العنف في شبه جزيرة سيناء، فقد قال إنه خلال عمله مديراً للمخابرات الحربية، كان يعلم جيداً طبيعة الأوضاع في سيناء، مشيراً إلى أن مجابهة الإرهاب الحقيقية لم تبدأ إلا بعد 30 يونيو. وقال: "هما اللى بدأوا مش إحنا"، وأضاف "كان بالإمكان أن نعيش جميعاً سوياً، وكل فئة بمعتقداتها وأفكارها، ولكنهم رفضوا".
وفي إطار هذه النصوص، يمكن القول إن دور العسكر وقائدهم، في تغذية الإرهاب والعنف في سيناء، لا يخرج بأي حال عن مستويين رئيسيين. الأول: المشاركة في دعم حركات العنف، تمويلاً وتوجيهاً وتخطيطاً وتدريباً وتأهيلاً. الثاني، التواطؤ مع القائمين عليها وتوفير صور دعم عديدة لها، حتى تتمدد وتكون من وسائل الابتزاز السياسي والعسكري، بل ومبرراً لممارسات قمعية عديدة ضد المواطنين المدنيين في سيناء، ومقدمة لتفتيت المنطقة أو تدميرها، أو التنازل عنها مستقبلاً لصالح الكيان الصهيوني، في ظل هذه الحالة من التماهي الكبير بين نظام العسكر في مصر والكيان الصهيوني المحتل في فلسطين.
2ـ أزمة سد النهضة: جاء تعاطي السيسي مع هذا الملف كارثياً، ليس فقط فيما يتعلق بكيفية إدارته، ولكن في وجود خفايا وأسرارٍ عديدة، لم يتم الكشف عنها في التعاطي معه مستقبلاً. فقد جاء في "الخطاب المرتجل": "هقول الكلام ده بالرغم إنه من منظور الأمن القومي غير صحيح.. في سد بيتعمل، وهنتفق مع الناس على عدد سنين معينة، لكي يبنوا السد، طب الميه أعوّضها منين، أسيب الفلاحين من غير ميه ولا إيه". وأضاف: "لو سمحتوا اللى يتكلم في موضوع يدرسه كويس، أو تعلالى وأنا أقول لك الحكاية أيه.. لا يوجد تواصل حقيقي بين الدولة ومؤسسات الإعلام، ومفيش تواصل حقيقي بشكل منتظم"، وأكد أن هناك صراعاً يتم معه ومحاولة لإيقاف البناء والسعي".
وهذه النصوص مع وجود تقارير منشورة على لسان رموزٍ في النظام العسكري في مصر، عن إمكانية نقل المياه إلى الكيان الصهيوني عبر سيناء (مليار متر مكعب مبدئياً مرحلة أولى)، هي أحد التفسيرات للتصعيد الكبير في أزمة النيل، بمعنى أن يتم تعقيد الأزمة، والوصول بها إلى نقطة اللاعودة وعدم القدرة على الحسم. وهنا، تتم التسوية عبر ضمان حصة مصر في مياه النيل في مقابل نقل المياه والكهرباء عبر مصر إلى الكيان الصهيوني.
3ـ الكيان الصهيوني: لم يكن حديث قائد العسكر عن استعداده لبيع نفسه نوعاً من العبث السياسي، أو الخطاب فقط العاطفي الذي يخاطب به البسطاء من المواطنين المصريين الذين يمكن أن تؤثر فيهم مثل هذه اللغة، لكنه يعكس توجهاً حقيقياً لدى قائد العسكر ونظامه لبيع كل شيء في مصر، مهما كانت قيمته والتضحية بثروات مصر ومقدّراتها، من أجل البقاء في السلطة ونهب الثروة. وسيكون البيع في المرات المقبلة، ليس فقط لصالح دول عربية داعمة للعسكر، مثل الإمارات والسعودية. ولكن، سيتم التوسع في البيع لمن يدفع وقد تظهر في الصورة روسيا والصين وإيران، إلا أن الأخطر هو البيع لصالح الكيان الصهيوني الذي لديه أطماع تاريخية في مصر وغيرها من الدول العربية.
وبعد ... هذا بعض من فيض، وهذا ما دفع إلى تقديم هذه القراءة في هذا الخطاب تحديداً، لأنه جاء كاشفاً لتوجهاتٍ كثيرة، تشارك فيها كل مؤسسات نظام "3 يوليو"، وخصوصاً المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية، وكذلك المؤسسات الحكومية، والبرلمان. ويأتي دور الإعلام الموالي للنظام في تبني سياسة الإلهاء، لشغل الجميع عن مثل هذه التحديات الكبرى بقضايا فرعية وهامشية، في وقتٍ تسير فيه أجهزة النظام الحاكم، ومؤسساته ورموزه، في تنفيذ مخططاتها بدقة وتركيز.
أولاً: الأبعاد السياسية:
عكست نبرة الخطاب والحالة النفسية والعصبية التي ظهر عليها قائد الانقلاب وجود أزمات سياسية حقيقية، يعاني منها النظام السياسي في مصر، في هذه المرحلة، وما يترتب على ذلك من تداعيات:
1ـ الأزمات الداخلية: يعكس الخطاب عمق الأزمات الداخلية، ولعل أهمها، ما تناولته تقارير عديدة من وجود حالة من التذمر السياسي داخل بعض الأجهزة العسكرية والأمنية من الأداء السياسي لقائد الانقلاب وممارساته في السلطة، ترتقي هذه الحالة، عند بعضهم، من التذمر إلى الحديث عن انشقاقات وصراعات داخلية حقيقية، أكدتها مؤشرات، لعل منها لقاءات رئيس الأركان، الفريق محمود حجازي، مع سفراء دول أجنبية وعربية في مصر، وهو دور ليس منوطاً به، أو مسؤولاً عنه.
كذلك تعدد اللقاءات والمقابلات الخاصة التي يقوم بها وزير دفاع الانقلاب، الفريق أول صدقي صبحي، وكبار رجال المؤسسة العسكرية مع أسلحة الجيش المختلفة، لاحتواء حالات عدم الاستقرار ومحاولة تسوية الأزمات الداخلية لديهم، واحتواء صراعاتهم، قبل أن تنفجر وتؤدي إلى إسقاط النظام، خصوصاً وأن هذه المؤسسة هي الركيزة الرئيسة لاستمرار هذا النظام أو انهياره.
2ـ المعارضة السياسية: كشف الخطاب عن وجود نزعة لإلغاء، وليس فقط تهميش، المعارضة السياسية الداخلية للنظام، وهو ما برز في دعوته إلى الأخذ عنه فقط، وسماع كلامه هو فقط. وهنا أقول معارضة، قاصداً بذلك التيارات والقوى والنخب السياسية التي قبلت بمسار "30 يونيو"، وتعاطت مع خطواته ومراحله، وارتضت أن تعمل من داخل نظام "3 يوليو" العسكري، ولا تتضمن هذه التيارات القوى المناهضة أو المقاومة والرافضة لبقاء هذا النظام، وتعمل على إسقاطه. فإذا كان هذا هو توجه رأس النظام نحو من شاركوه ومنحوه نوعاً من الشرعية، فإن الوضع سيكون أشد كارثيةً وتشدداً وقمعاً ضد من يناهضونه ويقاومونه، ويسعون إلى إسقاطه.
3ـ التقييم السياسي: عند حديثه عن الحكومة، قال قائد العسكر: "إنتو هتعرفوا أكتر مني .. الحكومة دي كويسة ولا لا.. وأنا بقعد معاهم كل يوم.. وأنا مش بدافع عن حد.. وهو مسؤول الحكومة بياخد إيه علشان يستحملك وتضرب فيه ليل ونهار وفي الجرائد وغيره". وأضاف: "لو في حاجة عايزة تتعدل هنعدلها، وأرجو إننا نوفر مناخ جيد وحافظوا عليه وشجعوه".
وهذه النصوص وغيرها الكثير مما تضمنه الخطاب ترسخ التوجه نحو تغييب، إن لم يكن تدمير، أية أطر قانونية أو تنظيمية للرقابة والتقييم السياسي لعمل الحكومة، ويكفي أن يقول قائد العسكر إنها جيدة، حتى تكون جيدة، والعكس.
4ـ ترسيخ الهيمنة والديكتاتورية: وهي نتائج طبيعية لتدمير الحياة السياسية، وطبيعة رؤية قائد العسكر للمؤسسات السياسية وكيفية التعاطي معها، وموقفه من القوى والتيارات السياسية الداعمة له. وهذه النزعة إذا كانت الآن في مواجهة المؤسسات السياسية والمدنية، فإنها، مع مزيدٍ من التمكين السياسي، ستكون في مواجهة كل المؤسسات العسكرية والأمنية، والتي ستتحول تدريجياً إلى مجرد أدواتٍ لفرض القمع والهيمنة.
تؤكد ذلك تصريحاته الارتجالية في الخطاب، والتي جاءت بلهجةٍ غاضبةٍ وحادة، حيث أعلن صراحة للجميع: "إما السكوت وتركه يعمل من أجل البلد، كونه الوحيد الذي يعرف ذلك، أو الإبادة من على وجه الأرض نهائياً، معلناً صراحةً إنه لن يترك حكم البلاد في أي ظرف، إلا على جثّته ميتاً أو أن تنتهي ولايته".
ثانياً: الأبعاد الاقتصادية:
كشف خطاب قائد الانقلاب عن أبعاد اقتصاديةٍ عديدةٍ، من شأنها أن تفرز أخطاراً وتهديدات مستقبلية عديدة، لعل في مقدمتها:
1ـ غياب المصداقية: الرؤية الاستراتيجية 2030، التي تم الحديث عنها، وكانت محوراً للمؤتمر، تم نشرها في صحيفة الأهرام الحكومية المصرية في 22 مايو/أيار 2011، وأعيد نشرها قبل أشهر، وبالتالي، لا جديد يقدمه رأس النظام، وهو ما يعكس ما يمكن تسميته "نوعاً من التضليل السياسي"، وهذا ليس جديداً على النظام الحاكم في مصر، بل سبق وتم الإعلان عن خطط ورؤى وتصورات عديدة، ثم يتم الكشف أنها كانت لنظم سابقة.
2ـ المشروعات الوهمية: يدفع المضمون العام للخطاب، المكتوب والمرتجل، باتجاه ترسيخ فرضية المشروعات الوهمية التي يتم ترويجها بين حين وآخر، سواءً بإطلاق مشروعاتٍ، لا تتفق والواقع الاقتصادي المصري في هذه المرحلة، وما يشهده من انهياراتٍ وأزمات، أو بالقول إن هناك إنجازات تحققت بالفعل على أرض الواقع. ولكن، لا يتم الإعلان عنها خوفاً، كما قال قائد الانقلاب، في خطابه من "الأشرار".
3ـ الدعم الخارجي (الخليجي): كشف الخطاب عن وجود أزمة حقيقية في العلاقة بين النظام العسكري الحاكم في مصر وداعميه الخارجيين، وهو ما تم الوقوف عليه من إشارة قائد الانقلاب إلى وجود "من يُعاير مصر بفقرها"، ثم تأكدت الأزمة بعد أقل من 48 ساعة من الانتهاء من الخطاب، مع تعدّد التقارير الإعلامية عن رفض المملكة العربية السعودية تمويل مشروعاتٍ قدمتها حكومة الانقلاب لحكومة المملكة، في إطار المجلس التنسيقي المصري ـ السعودي، للحصول على ما سبق وأعلنت عنه المملكة من رفع قيمة استثماراتها في مصر إلى 30 مليار ريال سعودي.
وذهب بعضهم إلى أن أسباب الرفض قد تكون اقتصادية بالأساس، وتتعلق بمعيار الربحية التي يمكن تحقيقها من هذه المشروعات، خصوصاً مع الأزمة الاقتصادية الكبيرة التي تمر بها السعودية، جراء الانخفاض الكبير في أسعار النفط، إلا أن البعد السياسي غير غائب على خلفية موقف النظام العسكري الحاكم في مصر من إعلان السعودية رغبتها في تدخل عسكري في سورية.
4ـ الاستنزاف الاقتصادي للمصريين: رسخ خطاب عبد الفتاح السيسي توجهات نظام "3 يوليو" في استنزاف كل القدرات الاقتصادية والمادية للمواطنين، والتي ظهرت بقوة في توجيه المواطنين مدخراتهم في مشروع تفريعة قناة السويس، ثم ظهور دعوات إلى التبرع بفوائد هذه المدخرات، بل ومطالبة بعضهم بالتبرع بأصول هذه المدّخرات، ثم جاءت خطوة أخرى للاستنزاف، من دون رقابة أو محاسبة، تحت مسمّى "صندوق تحيا مصر"، ثم جاءت الخطوة الجديدة في خطاب قائد العسكر، محل التحليل، وتمثلت فيما أسماها إعلامه "مبادرة صبّح على مصر بجنيه"، وهي امتداد لتصريحات سابقة لقائد العسكر، عندما كان وزيراً للدفاع، وأعلن فيها أنه سيفرض على شبكات المحمول تعريفة للمرسل والمستقبل.
ثالثاً: الأبعاد الاستراتيجية:
جاء الخطاب كاشفاً عن تحديات وأخطار استراتيجية عديدة، ترتبط ليس فقط بالأمن القومي المصري، ولكن بالأمن القومي للمنطقة، ومن ذلك:
1ـ قضية الإرهاب: كشف خطاب قائد النظام العسكري عن دور فاعل في تنامي ظواهر العنف في شبه جزيرة سيناء، فقد قال إنه خلال عمله مديراً للمخابرات الحربية، كان يعلم جيداً طبيعة الأوضاع في سيناء، مشيراً إلى أن مجابهة الإرهاب الحقيقية لم تبدأ إلا بعد 30 يونيو. وقال: "هما اللى بدأوا مش إحنا"، وأضاف "كان بالإمكان أن نعيش جميعاً سوياً، وكل فئة بمعتقداتها وأفكارها، ولكنهم رفضوا".
وفي إطار هذه النصوص، يمكن القول إن دور العسكر وقائدهم، في تغذية الإرهاب والعنف في سيناء، لا يخرج بأي حال عن مستويين رئيسيين. الأول: المشاركة في دعم حركات العنف، تمويلاً وتوجيهاً وتخطيطاً وتدريباً وتأهيلاً. الثاني، التواطؤ مع القائمين عليها وتوفير صور دعم عديدة لها، حتى تتمدد وتكون من وسائل الابتزاز السياسي والعسكري، بل ومبرراً لممارسات قمعية عديدة ضد المواطنين المدنيين في سيناء، ومقدمة لتفتيت المنطقة أو تدميرها، أو التنازل عنها مستقبلاً لصالح الكيان الصهيوني، في ظل هذه الحالة من التماهي الكبير بين نظام العسكر في مصر والكيان الصهيوني المحتل في فلسطين.
2ـ أزمة سد النهضة: جاء تعاطي السيسي مع هذا الملف كارثياً، ليس فقط فيما يتعلق بكيفية إدارته، ولكن في وجود خفايا وأسرارٍ عديدة، لم يتم الكشف عنها في التعاطي معه مستقبلاً. فقد جاء في "الخطاب المرتجل": "هقول الكلام ده بالرغم إنه من منظور الأمن القومي غير صحيح.. في سد بيتعمل، وهنتفق مع الناس على عدد سنين معينة، لكي يبنوا السد، طب الميه أعوّضها منين، أسيب الفلاحين من غير ميه ولا إيه". وأضاف: "لو سمحتوا اللى يتكلم في موضوع يدرسه كويس، أو تعلالى وأنا أقول لك الحكاية أيه.. لا يوجد تواصل حقيقي بين الدولة ومؤسسات الإعلام، ومفيش تواصل حقيقي بشكل منتظم"، وأكد أن هناك صراعاً يتم معه ومحاولة لإيقاف البناء والسعي".
وهذه النصوص مع وجود تقارير منشورة على لسان رموزٍ في النظام العسكري في مصر، عن إمكانية نقل المياه إلى الكيان الصهيوني عبر سيناء (مليار متر مكعب مبدئياً مرحلة أولى)، هي أحد التفسيرات للتصعيد الكبير في أزمة النيل، بمعنى أن يتم تعقيد الأزمة، والوصول بها إلى نقطة اللاعودة وعدم القدرة على الحسم. وهنا، تتم التسوية عبر ضمان حصة مصر في مياه النيل في مقابل نقل المياه والكهرباء عبر مصر إلى الكيان الصهيوني.
3ـ الكيان الصهيوني: لم يكن حديث قائد العسكر عن استعداده لبيع نفسه نوعاً من العبث السياسي، أو الخطاب فقط العاطفي الذي يخاطب به البسطاء من المواطنين المصريين الذين يمكن أن تؤثر فيهم مثل هذه اللغة، لكنه يعكس توجهاً حقيقياً لدى قائد العسكر ونظامه لبيع كل شيء في مصر، مهما كانت قيمته والتضحية بثروات مصر ومقدّراتها، من أجل البقاء في السلطة ونهب الثروة. وسيكون البيع في المرات المقبلة، ليس فقط لصالح دول عربية داعمة للعسكر، مثل الإمارات والسعودية. ولكن، سيتم التوسع في البيع لمن يدفع وقد تظهر في الصورة روسيا والصين وإيران، إلا أن الأخطر هو البيع لصالح الكيان الصهيوني الذي لديه أطماع تاريخية في مصر وغيرها من الدول العربية.
وبعد ... هذا بعض من فيض، وهذا ما دفع إلى تقديم هذه القراءة في هذا الخطاب تحديداً، لأنه جاء كاشفاً لتوجهاتٍ كثيرة، تشارك فيها كل مؤسسات نظام "3 يوليو"، وخصوصاً المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية، وكذلك المؤسسات الحكومية، والبرلمان. ويأتي دور الإعلام الموالي للنظام في تبني سياسة الإلهاء، لشغل الجميع عن مثل هذه التحديات الكبرى بقضايا فرعية وهامشية، في وقتٍ تسير فيه أجهزة النظام الحاكم، ومؤسساته ورموزه، في تنفيذ مخططاتها بدقة وتركيز.