05 نوفمبر 2024
خفّة "السيلفي" التي لا تُحتمل
يتناول فيلم "الزين اللي فيك" لمخرجه المغربي- الفرنسي، نبيل عيوش، والذي عُرض أخيراً في مهرجان كان، موضوع البغاء في مدينة مراكش، بعرضه قصص أربع نساء مغربيات يعتشن من بيع أجسادهن. وقد نُشرت مشاهد مسرّبة من الشريط الروائي على الإنترنت، أدّت إلى اعتباره "إباحياً"، وإلى توصيف ممثلاته بأنهن "عاهرات"، كما أثارت جدلاً واسعاً في المجتمع المغربي، فخرجت ضد الفيلم ومخرجه مظاهرة، وأنشئت صفحات تواصل اجتماعي للتنديد بهما، وأعلنت الحكومة المغربية منع عرض الفيلم في الصالات، لأنه يتضمن "إساءة أخلاقية جسيمة للقيم وللمرأة المغربية".
والموضوع ليس فيلماً لم تتسنّ لي مشاهدته، وإنما ردود أفعال متطرفة وانفعالات مبالغة تتكرر، كلما خرج عمل يتناول واقعاً معيناً. فإن قال قائل إن النص الديني، مثلاً، يحتاج مراجعةً وإعادة قراءة، اتّهم بكره الإسلام وبمعاداته. وإن انتقد عقلية عربية بعينها، وأسلوباً مراوغاً في الحشد والتعبئة، قيل إنه من كارهي العروبة، متصهين ومرتهن للغرب. وإن أظهر واقعاً سلبيا محصوراً، جرى التعميم ومحاكمته على أنه خائن لانتمائه، يريد تشويه السمعة والإساءة إلى قيم ثقافته وبلاده.
أذكر أني، ذات يوم، اهتممت بقصة الزبّالين في مصر، وطرقهم الذكية في جمع وتدوير نفايات مدينة هائلة كالقاهرة، تسكنها الملايين، فعايشتهم نحو ستة أسابيع في مكب النفايات في جبل المقطم، حيث كانوا يقطنون ويعملون، أجمع المواد وأجري مقابلات، تحضيراً لفيلم كنت أنوي تصويره، وكان ذاك قبل أن تزورهم المكننة، وكل الجمعيات التي اهتمت بتطوير طرق عملهم من ثم. وحين اقترب موعد تنفيذ الفيلم الوثائقي، سألني المنتج الفرنسي أن أتقدّم بطلب إذن للتصوير، ليضمن قابلية الموضوع للتنفيذ، فسئلت، بارتياب ونفور من المسؤولين المصريين، عن سبب اختياري مثل هذا الموضوع، "ولمَ لمْ أجد في مصر كلها، وعظمتها وتاريخها المجيد وآثارها العريقة، موضوعا آخر أصوّره، غير بشر يعيشون في مكب للنفايات؟". طبعاً، في مواجهة اتهام ضمني كهذا برغبة الإساءة وتشويه السمعة، كان من غير المجدي، بل من المستحيل، أن أشرح نياتي الطيبة، ورغبتي في استخلاص درس ثمين يُعطى للعالم كله، ممّا يفعله زبالو مصر الأذكياء، تماماً كما أصبح مستحيلا من بعدها استكمال تمويل الفيلم، من دون الحصول على إذن رسمي بالتصوير.
وقبلها، في بيروت، خلال الحرب، ومن أجل برنامج ثقافي كان اسمه "ثقافة وناس"، صورت فيلماً قصيرا عن البغاء، وكانت الفكرة أن أذهب إلى منطقة الزيتونة التي كانت، قبل الحرب، منطقة معروفة وحيّة، يرتادها سواح أجانب وعرب، للسهر في مقاهيها وحاناتها، وكيف تحوّلت هذي الأخيرة، بديكوراتها المتهاوية وسلالمها المبتورة، إلى حانات للبغاء من الدرجة العاشرة، تختبئ فيها عربيات هاربات من جحيم الأهل والفقر والقمع. وبعد أن تعرّضتُ والفريق لضغوط أهل المنطقة، والعابرين ممن كان يروق لهم إيقاف التصوير، "حفاظاً على الأخلاق"، جاء دور الرقابة، متمثلة بسيدة موظفة في الأمن العام، كانت تمضي نهاراتها تطقش باللبان، وتحيك الصوف بصنارتيها، لتحجز الفيلم القصير وتمنع عرضه في التلفزيون، بحجة أنها "لم تفهم منه شيئا"، وبأن ثمة "ما يقلقها في اختياري هذا الموضوع بالذات، من بين كل المواضيع التي تحسّن ذوق المشاهد وأخلاقه، بدل أن تنبهّه إلى كيفية ممارسة الفحشاء". أذكر جيداً ما كانت ردة فعل مسؤولة المونتاج آنذاك، السيدة منى الصبّان، التي تحمّست لي، ولأسلوب عملي الجديد، كيف ضربت رأسها عند منعه، وتشاجرت مع مسؤولي البرنامج، لأنهم لم يدافعوا عن عملي، ويتمسكوا بي، قبل أن تنصحني بمغادرة البلاد.
وخلاصة القول إن الشعوب أيضا، كالأفراد، قد يعنّ لها أحياناً التقاط صورة "سيلفي"، من دون ماكياج، وإن الشعوب المنازِعة الهرمة المترهّلة، التي يمتلئ وجهها بالبثور والتجاعيد، هي فقط من تخشى النظر إلى صورتها في المرآة.