ربما يكون الرئيس الأميركي المقبل أمام خيارات اقتصادية صعبة قد تضطره للتضحية بدولة الرفاه أو التضحية بموقع الدولار كعملة احتياط، خاصة إذا صعد دونالد ترامب للحكم. فأميركا تعيش مرحلة من الديون السيادية المتصاعدة في وقت تتضخم فيه نفقات دولة الرفاه ويقل فيه الدخل المجني من الضرائب.
وحتى الآن يبدو الاحتمال كبيراً أن تنحصر معركة الرئاسة الأميركية خلال الانتخابات المقبلة في نوفمبر بين دونالد ترامب وهيلاري كلينتون. ولكن بغض النظر عمن سيفوز في هذه الانتخابات، فإنه سيواجه تحديات اقتصادية ضخمة. فالشعارات البراقة التي يرفعها المرشحون والخطابات التي تلهب حماس الناخبين في الحملات الانتخابية شيء والواقع الاقتصادي المرير الذي تعيشه أميركا شيء مختلف تماماً.
وحسب آراء مجموعة من الاقتصاديين وخبراء المال الذين الذين اطلعت "العربي الجديد" على آرائهم، فإن من يتسلم زمام الأمور في أميركا سيواجه هذا الواقع، وربما تتحطم أمامه الكثير من الوعود والشعارات التي رفعها أيام الانتخابات.
ومثالاً على ذلك، فإن المرشح دونالد ترامب رفع شعار بناء حائط بين أميركا والمكسيك، لكي يستجدي تعاطف الشارع الأميركي في الولايات التي تعاني من المهاجرين، ولكنه يعلم في الواقع أنه لا يستطيع فعل ذلك، لأن تجارة أميركا ستضرب إذا فعل ذلك.
تحديات أربع
ومن بين أول التحديات الرئيسية التي تواجه الرئيس الأميركي المقبل ويشير إليها خبراء الاقتصاد، قضية رفع مستوى النمو الاقتصادي الذي لا يتجاوز حالياً نسبة 2.0%، وسط اضطراب أسواق المال العالمية وضعف اقتصادات الدول الناشئة وشركاء التجارة الرئيسيين للولايات المتحدة وانهيار أسعار السلع الأولية.
ورغم صعود مؤشرات الأسهم في "وول ستريت"، فإن تذبذب أداء المؤشرات الرئيسية للسوق الأميركي يشير بوضوح إلى أن الاقتصاد الأميركي لا ينمو بما فيه الكفاية.
ولم تعد مشكلة أميركا هي الخروج من أزمة المال العالمية التي ضربت الأسواق في العام 2007، وإنما المشكلة الجديدة هي رفع معدل الإنتاجية في أميركا وزيادة ربحية الشركات وبناء اقتصاد جديد.
وحتى الآن نجحت سياسات التحفيز التي ضخ فيها الاحتياط الفدرالي أكثر من 4 ترليونات دولار خلال السنوات الماضية في تحقيق هدف إنقاذ أميركا من الكساد الاقتصاد، ولكنها لم تفلح في خلق الوظائف بالمعدلات المطلوبة أو بناء اقتصاد قوي.
أما التحدي الثاني، فهو تزايد الديون السيادية في أميركا؛ والتي بلغت حتى الآن حوالى 18 ترليون دولار، وتأخذ خدمة ديونها حوالى 430 مليار دولار سنوياً من الميزانية، حسب تقديرات لجنة الميزانية بالكونغرس الأميركي. وتشير تقديرات مكتب الميزانية بالكونغرس، إلى أن عجز الميزانيات الأميركية تضيف في المتوسط حوالى ترليون دولار سنوياً إلى مستوى المديونية الحالي.
وهذا المستوى المرتفع من الدين العام، يأتي في وقت يتزايد فيه عدد المتقاعدين واحتياجاتهم للرعاية الصحية والضمان الاجتماعي. وبالتالي، فإن الرئيس الأميركي الجديد سيكون أمام خيارين أحلاهما مر، وهما إما خفض الإنفاق في الميزانيات إلى الثلث تقريباً، أو رفع الضرائب على الدخول والشركات.
وهذا يخلق مشكلتين للولايات المتحدة: الأولى، توسع الإنفاق على دولة الرفاه في وقت لا تتوفر فيه وظائف كافية وبمرتبات مجزية لخريجي الجامعات، ناهيك عن غير الجامعيين من الشباب. فالعديد من الوظائف في أميركا غير كافية لضمان معيشة أصحابها وفي حاجة إلى دعم الدولة.
أما المشكلة الثانية، فإن خدمة الفوائد على الديون السيادية تعني ببساطة المزيد من الضرائب وخفض المزيد من الوظائف الحكومية والانفاق، في وقت تتناقص فيه عدد الوظائف ذات الأجور العالية للخريجين. ويلاحظ أن معظم القطاعات الأميركية الحيوية تلغي مئات الآلاف من الوظائف. فكل من قطاع البنوك والطاقة وحتى التأمينات تتخلص كل يوم من موظفيها.
مكانة الدولار
أما التحدي الثالث: فهو الحفاظ على مكانة الدولار كعملة احتياط دولية وكعملة لبيع النفط والغاز والذهب والعديد من السلع الأولية، وسط الخطط الصينية التي وضعت للتخلي التدريجي عن ربط اليوان بالدولار.
والخطة الصينية التي ألمح اليها الساسة الصينيون في اجتماعاتهم الأخيرة تتمثل في ربط اليوان بسلة عملات أولاً، بدلاً من ربطه حالياً بهامش ذبذبة محكوم بالدولار.وربما لاحقاً تعويم اليوان.
ولم يعد سراً أن الصين التي تعد أكبر مستثمر في الدولار بدأت منذ العام الماضي في بيع جزء من استثماراتها في سندات الخزينة الأميركية وشراء الذهب حتى تهيئ احتياطاتها لتعويم اليوان في السنوات المقبلة.
وعلى صعيد ربط مبيعات النفط بالدولار، فلقد بات واضحاً أن هنالك استراتيجية صينية روسية إيرانية، تدعمها باقي دول البريكس للتخلص من الدولار، أو ما يطلق عليه "البترودولار" في تسويات الصفقات النفطية والصفقات التجارية البينية.
وهذه الخطة يجري تنفيذها منذ مدة وقد ظهرت أخيراً في العقود الإيرانية التي وقعتها طهران بعد رفع الحظر، حيث طلبت شركة النفط الوطنية الإيرانية، من المشترين للنفط تسديد قيمة صفقاتها باليورو وليس بالدولار.
ومن المعروف أن أميركا تستفيد من موقع الدولار كعملة احتياط في تسويق سندات الخزينة عالمياً التي تمثل أحد أهم أعمدة تمويل العجز المتراكم في الميزانيات الأميركية المتعاقبة.
أما التحدي الرابع فيتمثل في التجارة الخارجية، فإن الرئيس الجديد سيكون أمام مشكلة زيادة الصادرات الأميركية في الأسواق العالمية في ظل النمو الاقتصادي العالمي الضعيف.
وهذا سيفرض على أي رئيس اتخاذ سياسات تعاون أكبر مع الكتل الاقتصادية الرئيسية في آسيا ودول الاتحاد الأوروبي والصين، وليس الحرب كما يقول المرشح المحتمل للحزب الجمهوري دونالد ترامب.
ويلاحظ أن شركاء التجارة الكبار يواجه معظمهم مشاكل ضخمة، ما يعني أن أسواقهم لن تكون قادرة على استيعاب كميات أكبر من البضائع الأميركية.
ومثالاً على ذلك، فإن الاقتصاد الياباني يعاني منذ سنوات من الانكماش ويسعى البنك المركزي الياباني إلى إبقاء الين منخفضاً، حتى يتمكن من مساعدة الشركات اليابانية على زيادة صادراتها، خاصة في السوق الأميركية التي تعد الأكبر.
وفي دول منطقة اليورو، يعمل رئيس المركزي الأوروبي ماريو دراغي هو الآخر على الإبقاء على اليورو ضعيفاً، حتى تتمكن الشركات الأوروبية من زيادة صادراتها في الأسواق العالمية. ويحدث ذلك في وقت تتباين فيه نسبة الفائدة بدرجة كبيرة، حيث أن الفائدة في كل من اليابان ومنطقة اليورو "فائدة سالبة، أي أقل من الصفر"، فيما الفائدة في أميركا فوق الصفر.
ووسط هذا الواقع النقدي لا يستبعد خبراء حدوث "حرب عملات" خلال السنوات المقبلة بين أميركا والدول الآسيوية على الأقل. وبالتالي فهنالك مخاطر جمة تعترض احتمالات إنعاش الاقتصاد الأميركي خلال الفترة المقبلة.
ويضاف إلى هذه التحديات الصعبة، إعادة بناء البنية التحتية المتقادمة في الولايات الأميركية من طرق وجسور ومنشآت مدنية، في وقت تتزايد فيه مديونيات معظم الولايات الأميركية، وبات بعضها على شفا الإفلاس.
اقرأ أيضا: مصارف الاستثمار تخفض توقعاتها بشأن الدولار الأميركي