يطرح التفجير الذي استهدف أنقرة أمس الأول الأربعاء، تساؤلات حول الرد التركي المرتقب، وما إذا كان سيدفع أنقرة إلى توسيع هجومها ضد حزب "الاتحاد الديمقراطي" في سورية، في ظل العقبات التي تواجه هذا الأمر. الهجوم الذي استهدف أنقرة الأربعاء، هو السادس عشر خلال السنوات الخمس الأخيرة، ولكنه كان مختلفاً هذه المرة، إذ لم يستهدف خواصر تركيا الضعيفة كالمدنيين في البلدات الحدودية كما جرت عادة الهجمات التي يشنها تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)، لكن الهجوم وقع في ما يُطلق عليه في العاصمة التركية أنقرة "حي الدولة"، أو المربع الأمني في العاصمة، والذي يضم كل قيادات القوات العسكرية التركية مثل سلاح الجو والبحرية والقوات البرية ومساكن الضباط، ولا يبعد سوى أمتار عن مبنى البرلمان التركي ومبنى رئاسة الوزراء. ولحق ذلك أمس الخميس انفجار لغم على الطريق الواصل بين ولايتي بينغول وديار بكر، استهدف مركبة عسكرية تركية، ما أدى إلى مقتل 7 جنود أتراك وجرح آخرين.
أسقط هجوم الأربعاء، 28 قتيلاً أحدهم مدني والباقون من موظفي القوات المسلحة التركية، إضافة إلى جرح 81 شخصاً آخرين، 7 منهم بحالة خطيرة. وأعلن رئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو، خلال مؤتمر صحافي عقده مع قائد الأركان التركية الجنرال خلوصي أكار، أن منفذ الهجوم هو أحد عناصر قوات "الاتحاد الديمقراطي" (الجناح السوري للعمال الكردستاني)، سوري الجنسية يدعى صالح نجار (مواليد 1992) من مدينة عامودا في محافظة الحسكة. وقال داود أوغلو: "لدينا أدلة، من أين جاء الانتحاري، وكيف تم التخطيط للعملية، لن أفصح عن المزيد من التفاصيل، ولكن سنقوم بإيصال المعلومات إلى كل دول العالم، وعلى رأسها الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، بمن فيهم أولئك الذين يقولون إن الاتحاد الديمقراطي، ليس منظمة إرهابية"، في إشارة إلى الولايات المتحدة الأميركية وروسيا.
وبحسب مصادر أمنية تركية، فإن القيود الأمنية تؤكد أن الانتحاري صالح نجار دخل إلى تركيا في تموز 2014 كلاجئ، قادماً من مدينة عين العرب التي كانت تحت سيطرة قوات "الاتحاد الديمقراطي"، قبل أن تتعرض لهجوم عنيف من قبل "داعش"، في أكتوبر/تشرين الأول من العام ذاته، كان نقطة تحوّل في العلاقة بين "الاتحاد الديمقراطي" وواشنطن لجهة الشراكة في قتال "داعش".
ويؤكد ضابط تركي رفض الكشف عن اسمه، لـ"العربي الجديد"، أن هناك الكثير مما يشير إلى أن الانتحاري له ارتباطات وثيقة بالأمن العسكري السوري، والذي بدوره يمتلك علاقات وثيقة تاريخية مع "العمال الكردستاني" وأيضا مع "الاتحاد الديمقراطي"، أما المستهدف فهو الجيش التركي، وبالذات مبنى قيادة سلاح الجو الذي يُعدّ الأقرب إلى مكان حصول الهجوم. ويضيف الضابط: "لذلك لا نستبعد أن يكون لموسكو دور في هذا الهجوم، للانتقام من إسقاط سلاح الجو للطائرة الروسية، وأيضاً للدور المحوري الذي تقوم به تركيا في ضرب الخطط الروسية لفرض الحل العسكري وتفصيل حل سياسي على مقاسها، يضمن سيطرة طويلة الأمد لها في سورية".
لكن الرئيس المشارك لحزب "الاتحاد الديمقراطي" صالح مسلم، سارع إلى نفي أية علاقة للحزب بالهجوم. أما جميل بايك الرئيس المشارك لاتحاد المجتمعات الكردستانية (المظلة التي عملت تحتها كل التنظيمات التابعة للكردستاني)، والمطلوب الأول للأمن التركي، فكان رده غير واضح، إذ قال: "لا نعرف من المسؤول عن العملية، ولكن قد يكون رداً بالمثل (على جرائم الأمن التركي في كردستان)"، فيما بدا مطابقا لتصريحات "الكردستاني" على العمليات التي كان يتبناها تنظيم "صقور حرية كردستان" التابع له، والذي ظهر لأول مرة عام 2005، وتركزت عملياته في مدن الغرب التركي الكبيرة، وكان آخرها إطلاق قذائف هاون على مطار صبيحة كوكجك في مدينة إسطنبول. وأعلن هذا التنظيم في ديسمبر/كانون الأول الماضي فك ارتباطه بـ"العمال الكردستاني"، اعتراضاً على سياسات الأخير في المعركة مع أنقرة، والتي اعتبرها "إنسانية للغاية"، مشيراً إلى أنه سيعمل على نقل المعركة إلى كل أنحاء تركيا.
اقرأ أيضاً: 28 قتيلا بانفجار في العاصمة التركية يستهدف مساكن عسكرية
ولم تنتظر أنقرة كثيراً لتبدأ بالرد، لكنه بدا محدوداً، إذ شن الطيران التركي ضربات على قواعد "العمال الكردستاني" في العراق، واستهدف القصف مجموعة من 60 إلى 70 مقاتلاً من الحزب من بينهم قيادات، في منطقة حفتنين في شمال العراق. بينما قد يكون توسيع الهجوم على مواقع "الاتحاد الديمقراطي" في العراق في منطقة سنجار ممكناً، خصوصاً أن تقارير إعلامية تؤكد أن "الكردستاني" يعمل على تحويلها إلى مقر بديل بعد أن قام سلاح الجو التركي بتدمير مواقعه ومعسكراته السابقة في شمال العراق، وذلك في ظل الانزعاج الكبير من قِبل قوات البيشمركة التابعة لحليف أنقرة مسعود البرزاني من تصرفات "الكردستاني" في الإقليم.
كما استمرت المدفعية التركية المرابطة على الحدود بشن ضرباتها ضد قوات "الاتحاد الديمقراطي" المحيطة بمنطقة أعزاز في ريف حلب الشمالي، بينما سمحت السلطات بانتقال حوالي 500 مقاتل تابعين للمعارضة السورية من تنظيم "فيلق الشام" إلى مدينة أعزاز لمؤازرة قوات المعارضة المتواجدة هناك، والتي تعرضت خلال الأيام الماضي لهجوم مزدوج من قبل قوات "الاتحاد الديمقراطي" و"داعش".
يأتي هذا بينما كثّفت أنقرة من اتصالاتها الدبلوماسية، إذ استدعت الخارجية التركية سفراء الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن، إضافة إلى سفراء هولندا وألمانيا والاتحاد الأوروبي، لإطلاعهم على تفاصيل الهجوم.
أما عن توسيع الهجوم على "الاتحاد الديمقراطي"، فيبدو أنه لا يزال يحتاج إلى موافقة أميركية، تبدو حتى الآن بعيدة. وبينما لا زالت الضغوط التركية السعودية بدعم ألماني مستمرة على واشنطن للسماح لها بإنشاء منطقة آمنة مصغّرة بعمق 10 إلى 25 كيلومتراً في ريف حلب، وتغطية التدخّل البري ضد تنظيم "داعش"، وكذلك لرفع الغطاء عن "الاتحاد الديمقراطي" الذي تعتبره الولايات المتحدة شريكاً أساسياً في الحرب على "داعش"، فإن إثبات أنقرة لارتباط "العمال الكردستاني" وجناحه السوري بالهجوم سيسبب لواشنطن المزيد من الإحراج في العلاقة مع الحليف الأهم في المنطقة وهو تركيا.
فواشنطن لا زالت تحاول أن تحافظ على علاقتها مع "الاتحاد الديمقراطي"، على الرغم من إقرارها المبطّن بالتقارير التركية التي أكدت الدور المهم الذي قام به "الاتحاد الديمقراطي" في دعم قتال "الكردستاني" في تركيا، سواء لجهة تسريب السلاح المقدّم له أو تحويل مقاره في سورية إلى مراكز تدريب لـ"الكردستاني"، الأمر الذي أشار له المتحدث باسم الخارجية الأميركية مارك تونر، يوم الأربعاء، أثناء رده على تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بأن السلاح الأميركي المقدّم إلى "الاتحاد الديمقراطي" سيُوجَّه ضد تركيا، بالقول:" إن السلاح الذي قدمناه لبعض المجموعات الجيدة قد يتسرب للمجموعات السيئة، ونحن على علم بذلك".
وفي هذا السياق، لا يتوقع الكثير من المحللين والخبراء الأتراك أن يؤدي هجوم أنقرة، حتى لو أثبتت الحكومة التركية صلته بـ"الاتحاد الديمقراطي"، إلى تغيير جوهري مباشر في العلاقة بين واشنطن و"الاتحاد". واستبعد نائب رئيس الاستخبارات التركية السابق جودت أونيش، حدوث تغيير في موقف واشنطن من "الاتحاد الديمقراطي"، لافتاً إلى "الأهمية التي اكتسبتها الحركة السياسية الكردية في ظل التغييرات التي تعصف بالشرق الأوسط، بل تحوّلوا إلى لاعبين مهمين في كل من العراق وتركيا". الأمر نفسه أكده أيضاً السفير السابق أوزدم سانبيرك، قائلاً: "ليس علينا أن ننتظر تغييراً في الموقف الأميركي تجاه الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة، ولكن إذا استطاعت تركيا اتخاذ خطوات لإعادة الثقة في العلاقة بينها وبين واشنطن خلال المرحلة المقبلة، فبطبيعة الحال سترجّح واشنطن تركيا على أي شريك آخر في المنطقة".
أما أستاذ العلوم السياسية في جامعة توب للاقتصاد والتكنولوجيا نهاد أوزجان، فيؤكد لـ"العربي الجديد" أن التغيير في الموقف الأميركي لا يعتمد فقط على الضرر الذي يشكّله "العمال الكردستاني" و"الاتحاد الديمقراطي" للدولة التركية، ولكنه سيعتمد بشكل أساسي على قدرة تركيا في استثمار الحدث سياسياً ودبلوماسياً وأمنياً واستخباراتياً لتقديم بدائل مقنعة لواشنطن، تعيد الثقة في العلاقة بين الطرفين، وهذا أمر ليس مستحيلاً ولكنه ليس سهلاً كذلك.
يُذكر أن تركيا تعرّضت منذ سبتمبر/أيلول 2011، إلى 16 هجوماً خارج إطار الهجمات المسلحة التي يشنها مقاتلو حزب "العمال الكردستاني" ضد قوات الأمن التركية، وكان آخر الهجمات الـ16، الهجوم الذي تبناه الحزب الشهر الماضي، باستخدام شاحنة مفخخة استهدفت مديرية الأمن في منطقة جنار في ولاية ديار بكر، سبقه هجوم لـ"داعش" في منطقة السلطان أحمد في مدينة إسطنبول واستهدف عدداً من السياح الأجانب.
وأسقطت هذه الهجمات بمجموعها 272 قتيلاً و804 جرحى، لم يتبنّ "الكردستاني" منها سوى 6، واحد منها فقط كان في إسطنبول، واستهدف أحد مخافر الشرطة، ما بدا التزاماً من "الكردستاني" بعدم توسيع المعركة لتشمل مدن الغرب التركي. أما باقي الهجمات فتركزت في مدن جنوب شرقي البلاد، بينما تم اتهام "داعش" بأغلبية الانفجارات الاخرى، علماً أن التنظيم لا يعلن عادة عن تبنيه الهجمات التي يقوم بها في تركيا، على الرغم من أنه قام بأكثرها دموية في التاريخ التركي، وهو الهجوم الانتحاري المزدوج الذي وقع في العاصمة أنقرة، في أكتوبر/تشرين الأول، واستهدف مسيرة نظمها حزب "الشعوب الديمقراطي" (الجناح السياسي للعمال الكردستاني) وعدد من المنظمات اليسارية المتحالفة معه، وأدى إلى مقتل أكثر من مئة شخص وجرح مئات المدنيين الآخرين.
اقرأ أيضاً: تركيا تضغط لمنطقة آمنة مصغرة: 10 كيلومترات تشمل أعزاز