داعش والتكيف الاستراتيجي
"مع قتالنا الدولة الإسلامية والمتطرفين الآخرين، هناك أمر يمكن للرئيس باراك أوباما، ونحن جميعا أن نتعلمه منهم بشكل عام، هو أن الإرهابيين يقاتلون بذكاء أكثر منا"؛ ذاك ما كتبته صحيفة "نيويورك تايمز"، مطلع شهر أكتوبر/تشرين أول الجاري، تعليقاً على مجريات الأمور في العمليات العسكرية والجوية ضمن تحالف دولي كبير، بقيادة الولايات المتحدة لقتال تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسورية، وقد شدتني دقة العبارة التي استخدمتها الصحيفة، دلالة على البعد الاستراتيجي الذي تخطط وتنفذ، من خلاله، قيادة هذا التنظيم المعارك في البلدين اللذين بات من الصعب التكهن جداً تقدير الموقف العملياتي فيهما، نتيجة النجاحات الميدانية المتحققة على الأرض لمقاتلي الدولة.
وقد فند مستشار الأمن الوطني العراقي السابق، موفق الربيعي، الرؤية الأميركية للفترة الزمنية التي تحتاجها استراتيجية الرئيس الأميركي، باراك أوباما، للقضاء على "داعش" والمحددة بثلاث سنوات حداً أعلى، فقال في مقابلة مع محطة سي إن إن الأميركية، أجريت معه في دبي، منتصف الشهر الجاري "لا أظن أن فترة ثلاث سنوات ستكون كافية لتدمير داعش في العراق وسورية، أعتقد أنها ستكون حربا طويلة، ويجب أن نحضر أنفسنا للتحديات السياسية والاجتماعية والأيديولوجية المقبلة، إلى جانب التحديات الأمنية". بالطبع، لا يمكن الركون إلى تخمينات الربيعي، لسبب رئيسي يتعلق بموضوع النظرة المذهبية، الضيقة جداً، للمعارضة (السنيّة) دائماً في العراق تحديداً، والتي فشل هو شخصياً في التعامل معها، عندما كان مستشارا للأمن الوطني بعد عام 2004، كما أن قلة التجربة وعدم المهنية التي اتسمت بها إدارة هذا الملف أفضت بالأمن الوطني العراقي إلى أدنى درجات الانضباط، وبات العراق مهباً لتيارات مسلحة كثيرة، لم تكن "داعش" آخرها، ولن تكون.
نحن، إذن، أمام تضارب في الرؤية والاستراتيجية بين الولايات المتحدة ومن يتولى زمام الأمور فعلاً في العراق، كما أننا أمام صورة، تبدو مضطربة في شكلها العام، لكنها، في حقيقة الأمر، واضحة في تفاصيلها حد الإعجاز. تلك هي طريقة عمل تنظيم "داعش" سواء في سورية أم في العراق، وقد يكون من الغريب بمكان أن يتجاهل العالم حديث أعضاء في الحكومة العراقية ومسؤولين أميركيين ومصادر إعلامية موثوقة، عن سيطرة كاملة ومطلقة لمقاتلي تنظيم الدولة على محافظة نينوى، ومركزها الموصل، وتوغله، في معظم نواحي محافظة الأنبار (تشكل ثلث مساحة العراق) وصلاح الدين، وامتداده جنوباً خلف محافظة كربلاء (جرف الصخر)، والأكثر أهمية حصاره العاصمة العراقية بغداد من ثلاث جهات، كل هذا لا نجد اهتماما واضحاً فيه، مقابل الاهتمام بمعركة "عين العرب" مثلاً! ويؤكد موفق الربيعي خطورة الموقف "إنهم يحاولون التوغل في الضواحي الغربية للعاصمة، ولكن (من غير المرجح) أن ينجحوا في اختراق دفاعاتها. المطار يقع عند الطرف الغربي للعاصمة، وقد يكون ضمن نطاق نيران المسلحين من أبو غريب أو الضواحي الغربية لبغداد. ولكن، أظن أننا نجحنا في تأمين المطار وإبعاد الخطر عنه". كلام يبدو في غير موضعه حقيقة على الأرض، وهذا ما يختصره عضو لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ الأميركي، جون ماكين، الذي يرى "أن تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام ينتصر، وقادر على فرض سيطرته على مطار بغداد".
ومع ما يمكن للمراقبين وضعه من تصوراتٍ عن ماهية ما يجري، فعلاً، على الأرض العراقية تحديداً، والذي وصفه ماكين، بوضوح، "هم ينتصرون، ونحن لا ننتصر، العراقيون لا ينتصرون، قوات البشمركة والأكراد لا ينتصرون، ولا بد من مراجعةٍ، لما نقوم به، فنحن لا نضعف التنظيم، بهدف هزيمته حالياً"، وهو يرى أن تنظيم داعش "غير قادر على السيطرة على العاصمة العراقية بغداد، لكنه قادر على فرض سيطرته على مطارها، ومقاتلوه قادرون على اختراق بغداد بالمتفجرات والهجمات الانتحارية". نعم، يجب أن يتحول كلام ماكين إلى سؤال استراتيجي مهم للعسكريين وللسياسيين، ما المشكلة؟ هل هي بحسب ماكين "أن القصف الجوي لا يجدي نفعاً، وثانياً، لا بد من وجود مزيد من القوات البرية على الأرض، على شكل قوات خاصة، أو ما شابه ذلك، وعلينا تسليح البشمركة الذين يستخدمون أسلحة روسية قديمة ضد داعش الذي يستخدم أسلحتنا". ذلك كله جزء من الجواب، وجزء غير فعال منه في حقيقة الأمر. أما الأعمق من النظرة العسكرية التي يبدو أن واشنطن لم تتعلم من دروسها في العراق وأفغانستان شيئا منها فهي البعد الاستراتيجي الذي يقتضي درس الحالة العقائدية والتنظيمية والنفسانية للقوى المقاتلة في المنطقة، قبل إعداد خطط الحرب وإشغال العالم، كل العالم، بنواقيس الخطر والترهيب والإنذار، وما يترتب على ذلك من تحسس وإرباك للعلاقات الإنسانية بين شعوب الأرض، بكل معتقداتها الدينية والحضارية.
أعلنت أميركا على لسان رئيسها، باراك أوباما، مطلع سبتمبر/ أيلول الماضي، استراتيجيتها للقضاء على تنظيم الدولة الإسلامية، حيث حدد أوباما أربعة محاور، تتمثل بتنفيذ سلسلة هجمات جوية ضد داعش، وإرسال 475 عنصراً إضافياً من القوات العسكرية الأميركية، لتدريب القوات العراقية، والعمل مع شركاء واشنطن، لوقف تنقل المقاتلين المتطرفين من الشرق الأوسط وإليه، وتوسيع نطاق عملياتها الجوية ضد داعش في العراق". ومهما يكن حجم التعليقات التي صدرت عن مختصين عسكريين ومحللين سياسيين عن هذه الاستراتيجية، فإن تنظيم الدولة الإسلامية تعامل مع المعلن وغير المعلن من هذه الاستراتيجية بجدية كثيرة، واختارت قيادته العمل وفق ما يطلق عليه "التكيف الاستراتيجي" مع الخطط الأميركية في العراق وسورية، ثم محاولة جر صانع القرار العسكري لقوات التحالف إلى أهداف جانبية كثيرة، تفرض عليه مزيداً من الغارات الجوية مع إنجازات قليلة، فيما اختار هو أن تكون عمليات قضم المزيد من الأراضي (العراقية خصوصاً) الرد الاستراتيجي، المباشر والسريع، على استراتيجية أوباما الذي أبلغ، بنفسه، قادة عسكريين من أكثر من 20 دولة تعمل مع واشنطن لهزيمة تنظيم الدولة الإسلامية. انه يشعر بقلق بالغ بشأن التقدم الذي حققته الجماعة المتشددة في بلدة كوباني في شمال سورية وفي غرب العراق، وتقدم التنظيم من أقصر طريق في محور بغداد.
قد يفضي التكيف الاستراتيجي لـ "داعش" إلى مفاجآت لا يتوقعها أحد، ستعيد ترتيب المنطقة بالكامل في ذكرى تقسيمها بموجب اتفاقية سايكس – بيكو(1961)، وقد حذر الخبير العسكري الأميركي، ريك فرانكونا، من سعي التنظيم إلى محاصرة بغداد، وإسقاطها في نهاية المطاف، لتكون "عاصمة خلافته"، ما يعني الكثير إقليميا لدول المنطقة وشعوبها والعالم لاحقاً. وإلى ذلك، حذر عضو مجلس الشيوخ ماكين، فقال: "لا بد أن يكون واضحاً للعالم أنه إذا تمكن داعش من إقامة الخلافة، فذلك تهديد حقيقي لأميركا".
من تجارب التاريخ، القديم والحديث، نستطيع القول إن الحروب لا تحسم دائماً بنصر الطرف الذي دخلها، مهما أعد لها من خطط وتدبير، وإنما ينتصر فيها من يتكيف استراتيجياً بصورة ممتازة للمواقف والمتغيرات التي تتكشف أمامه، ويمتلك القدرة والقيادة على شحذ العقيدة وتجنيد الآخرين لها، وغالباً ما يكون الطرف الأبطأ هو الطرف المهزوم في هذه الحروب، كما أن نتائج الحروب، دائماً، لا تعتمد على صفحة واحدة من معاركها، بل من يمسك الأرض بقوة، ثم يتحرك منها إلى أرض أهم منها، وهو ما يجري في العراق، حالياً، بكل وضوح. ويرى المارشال الإنجليزي مونتغومري الذي قاد قوات الحلفاء ضد القوات الألمانية، بقيادة رومل، في خلاصة خدمته العسكرية الطويلة والمتميزة، أن "من المهم إدراك أن المعارك إنما تكسب، قبل كل شيء، في أفئدة الرجال" فبأي أفئدة سيتم النصر على مقاتلي تنظيم "داعش"؟