على حين راحة، وغفلة عمّا تدور حياتنا فيه فنمضي السنوات نلاحق أموالاً وأحلاماً نقترب منها أحياناً ونبتعد عنها معظم الأحيان، قد نجد أنفسنا نقلّب في ذكريات لا حصر لها. ذكريات تنقلنا إلى عوالم مختلفة.
من طبيعتنا أن نتذكر، وفي كثير من الأحيان نعتبر ذكرياتنا المنتقاة الفترة الأجمل التي نطمح إلى العودة إليها. بل نحاول تغيير طبيعة الأشياء والأشخاص من حولنا وتقريبها إلى ما كنّا وكانوا عليه يوماً ما قد يكون قريباً أو بعيداً. ومع علمنا أنّ الأمور تتغير ولا تبقى على حالها فإنّ ميلنا إلى ما نألف وما اختبرنا يطغى على ترتيب الأفكار بما يتناسب مع الأوضاع القائمة إذ نغرق في الذكريات، فنعود إلى الواقع الساعي للتقدم إلى الأمام بدلاً من العودة إلى الوراء.
لكنّ بعض الذكريات القديمة التي نحسبها زائلة يمكن لها أن تستعاد وتأتي أكلها في الحاضر.
يحصل الأمر مع بعض الأشخاص الذين غفلنا عنهم، وربما بعض الخيارات التي لم نتخذها وأهملنا احتمالاتها طوال سنوات ثم أثبتت نجاحها.
جزار الحيّ لم يكن جزاراً قبل عقد من الزمن. محله المزين بالخطافات المعدنية يعلّق فيها أغناماً مسلوخة وأفخاذ عجول فوق مصطبة خشبية كبيرة تصطف عليها ماكينات الفرم، ولا تهدأ حركة السكاكين والسواطير فوقها، كان متجراً لبيع المواد الغذائية والبقوليات. لكنّ ذلك "الميني ماركت" في تلك الفترة وصل إلى مرحلة الإفلاس. أقفل الدكانجي الشاب يومها متجره وأعاد ما استطاع من بضائع كاسدة إلى التجار، وباع ما أمكنه بتخفيضات كبيرة، وسدّ ما استطاع من ديون، ثم راح يسعى إلى تأمين مبلغ ما يساعده في النهوض مجدداً سواء عبر قرض مصرفي أو استدانة من أقاربه.
لم يكن ذلك ممكناً. لكنّ الشاب لم ييأس من المحاولة، وهو ما مكّنه من تعديل رؤيته بالكامل إذ قابل أحد أقاربه المسنين فقال له مثالاً شعبياً كان ذا مغزى كبير بالنسبة له: "لمّا تفلّس افتح دفاتر بيّك (والدك) القديمة". لم يفهم المقصود فوراً فاستفسر، حينها نصحه القريب بإعادة فتح ملحمة (جزارة) أبيه الراحل.
يحلف الجزار أنّه سمع هذا الكلام يوم الخميس عصراً، فكان يوم الجمعة منذ الصباح في المحل الذي تحوّل فجأة إلى ملحمة وبدأ الذبح فيها والبيع، بعدما جلب عدة والده المهملة طوال أعوام. ومنذ عشر سنوات حتى اليوم هو واحد من أكثر الجزارين بيعاً على مستوى المحلة كلّها وليس الحيّ وحده.
تلك الدفاتر القديمة ربما تمتلئ بالغبار. ربما اهترأت أوراقها. وربما ضاع منها ما ضاع. ربما أهملناها عن قصد وثبت لنا أنّ إهمالها كان خياراً جيداً. مع كلّ ذلك، لعلّها في بعض المرات تنتشلنا مما نحن فيه، ولعلّ الأحلام البعيدة التي نلاحقها كانت بين يدينا طوال الوقت من دون أن نعيرها أدنى اهتمام.
اقــرأ أيضاً
من طبيعتنا أن نتذكر، وفي كثير من الأحيان نعتبر ذكرياتنا المنتقاة الفترة الأجمل التي نطمح إلى العودة إليها. بل نحاول تغيير طبيعة الأشياء والأشخاص من حولنا وتقريبها إلى ما كنّا وكانوا عليه يوماً ما قد يكون قريباً أو بعيداً. ومع علمنا أنّ الأمور تتغير ولا تبقى على حالها فإنّ ميلنا إلى ما نألف وما اختبرنا يطغى على ترتيب الأفكار بما يتناسب مع الأوضاع القائمة إذ نغرق في الذكريات، فنعود إلى الواقع الساعي للتقدم إلى الأمام بدلاً من العودة إلى الوراء.
لكنّ بعض الذكريات القديمة التي نحسبها زائلة يمكن لها أن تستعاد وتأتي أكلها في الحاضر.
يحصل الأمر مع بعض الأشخاص الذين غفلنا عنهم، وربما بعض الخيارات التي لم نتخذها وأهملنا احتمالاتها طوال سنوات ثم أثبتت نجاحها.
جزار الحيّ لم يكن جزاراً قبل عقد من الزمن. محله المزين بالخطافات المعدنية يعلّق فيها أغناماً مسلوخة وأفخاذ عجول فوق مصطبة خشبية كبيرة تصطف عليها ماكينات الفرم، ولا تهدأ حركة السكاكين والسواطير فوقها، كان متجراً لبيع المواد الغذائية والبقوليات. لكنّ ذلك "الميني ماركت" في تلك الفترة وصل إلى مرحلة الإفلاس. أقفل الدكانجي الشاب يومها متجره وأعاد ما استطاع من بضائع كاسدة إلى التجار، وباع ما أمكنه بتخفيضات كبيرة، وسدّ ما استطاع من ديون، ثم راح يسعى إلى تأمين مبلغ ما يساعده في النهوض مجدداً سواء عبر قرض مصرفي أو استدانة من أقاربه.
لم يكن ذلك ممكناً. لكنّ الشاب لم ييأس من المحاولة، وهو ما مكّنه من تعديل رؤيته بالكامل إذ قابل أحد أقاربه المسنين فقال له مثالاً شعبياً كان ذا مغزى كبير بالنسبة له: "لمّا تفلّس افتح دفاتر بيّك (والدك) القديمة". لم يفهم المقصود فوراً فاستفسر، حينها نصحه القريب بإعادة فتح ملحمة (جزارة) أبيه الراحل.
يحلف الجزار أنّه سمع هذا الكلام يوم الخميس عصراً، فكان يوم الجمعة منذ الصباح في المحل الذي تحوّل فجأة إلى ملحمة وبدأ الذبح فيها والبيع، بعدما جلب عدة والده المهملة طوال أعوام. ومنذ عشر سنوات حتى اليوم هو واحد من أكثر الجزارين بيعاً على مستوى المحلة كلّها وليس الحيّ وحده.
تلك الدفاتر القديمة ربما تمتلئ بالغبار. ربما اهترأت أوراقها. وربما ضاع منها ما ضاع. ربما أهملناها عن قصد وثبت لنا أنّ إهمالها كان خياراً جيداً. مع كلّ ذلك، لعلّها في بعض المرات تنتشلنا مما نحن فيه، ولعلّ الأحلام البعيدة التي نلاحقها كانت بين يدينا طوال الوقت من دون أن نعيرها أدنى اهتمام.