دكتوراه في "القمع العربي"

23 فبراير 2016

جوليو ريجيني... نال دكتوراة في علم القمع العربي

+ الخط -
سواء قضى الطالب الإيطالي، جوليو ريجيني، نحبه تعذيباً أو تنكيلاً، في مصر، لا يهم، بل المهم هل حصل على درجة الدكتوراه في الاقتصاد المصري، كما كان يأمل، أم قطعت عليه الأجهزة الأمنية حلمه قبل إتمامه؟
هذا هو السؤال المهم في محنة ريجيني، أما أن يضجّ العالم استنكاراً وتنديداً، بمجرد أن تناهت إليه التفاصيل الأولى للجريمة المروّعة التي ارتكبت بحق هذا الطالب الذي وجدت جثته في حفرة، مقطوع الأذن، وعلى جسده آثار حروق سجائر، وكدمات ناجمة عن تعذيب وحشي، فذلك إنما يندرج في باب "لزوم ما يلزم"، لكل ضحيةٍ، يقودها سوء طالعها إلى الوقوع في براثن أجهزة الأمن العربية برمتها، من دون تعيين.
وأن يصاب وزير الداخلية الإيطالي بما يشبه الهذيان من هول التوصيف المدوّن لحالة جثة ريجيني، حين قرأ تقرير الطب الشرعي المتعلق بتشريحها، فذلك هذيانٌ مردود عليه، لأنه لو تفضّل معاليه بزيارة أي بلد عربي، لأدرك أن هذيانه لا يُقاس بحجم نظيره من الهذيان الشعبي الجماعي، من هول ما تعانيه تلك الشعوب بين أنياب أجهزة أمنيةٍ، لم تعد تكترث كثيراً بلون البشرة أو الشعر، أو حتى الديانة، قبل أن تجهز على الضحية.
عموماً، ومن باب الرغبة في مساعدة المحققين الإيطاليين الذين طالبوا بإشراكهم في التحقيقات المتصلة بمحنة ريجيني، أنصحهم بالعودة إلى سؤالي الأول، المتعلق بسبب مجيء الطالب المذكور إلى مصر، وأعني فضوله العلمي لدراسة الاقتصاد المصري، ذلك أنني أعتقد أن كل "كدمة" أو "سحجة" أو "قطع" في جسده، إنما تمثل "اكتشافاً" خارقاً في علم الاقتصاد المصري، ومن ثم فإن شهادة الدكتوراه التي أرادها في بلاد النيل، باتت محفورة هناك على جسده، بعد أن أدرك أن لـ "فائض القيمة" في علم الاقتصاد العربي معنى آخر، مغايراً لكل المبادئ الاقتصادية التي درسها في بلاده.
الآن، وبعد فوات الأوان، بات ريجيني يدرك أن لا "قيمة" حقيقية للإنسان في بلاد العرب، وأن "الفائض" هو فائض القمع والتنكيل وحسب، وأن البورصات العربية لا تقفز بأسهمها إلا سهام مغروزة في قلوب الغلابى والمحرومين، وأن الخطوط البيانية للثروة العربية لا ترتفع، إلا في أرصدة اللصوص وتجار الأوطان.
لكل كدمة على جسد ريجيني ما يناظرها في علم الاقتصاد المصري الذي شاء له ساسة الانقلاب أن يتحول إلى اقتصادٍ خاص بجيوبهم وحدهم. أما ما خلا ذلك، فلا أكثر من أقبية للتعذيب والاغتيالات، ومطاردات محمومة لكل رافض لهذا الانقلاب، وما بينهما مخبرون وجلادون فاقت أساليب تعذيبهم كل قواميس التنكيل الاستبدادية التي عرفها تاريخ البشرية. وأغلب الظن أن ريجيني اختطف وعذب وقتل، من دون أن يعرف الجلادون اسمه أو جنسيته، أو حتى لون بشرته، بل يكفي أن يكون موجوداً في مكانٍ "خطأ"، أو تفوه بكلمة إيطالية لم يفهمها مخبر يبحث عن ترقيةٍ ما، فوجد في هذه الضحية فرصته التي كان يبحث عنها، للبرهنة على تميزه في عالم القمع، وإخلاصه في أداء "مهماته".
على هذا النهج، يمكن للمحققين الأجانب أن يدركوا ما حلّ بابنهم في "جهنم". أما أن يعتمدوا نهجهم القائم على فحص الأدلة، والاستماع إلى أقوال "الشهود"، ومقارنة بعضها ببعض، لاستخلاص النتائج، فذلك ضرب من العبث، لأن الشهود سبقوا الضحية بالموت، هذا إن وجدوا أصلاً.
في المقابل، على المحققين الإيطاليين، عوضاً عن النوح والامتعاض والهذيان، أن يبتهجوا، وأن يباركوا لابنهم، الطالب جوليو ريجيني الذي حصل، فعلاً، على درجة الدكتوراه في علم "القمع العربي".
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.