جرت العادة أن السياسيين هم الذين يخاطبونكم، معتمِدين في ذلك على حق يعتبرونه وقفاً عليهم. وحين يتوجّهون إليكم، فإنهم غالباً ما يرغبون في ضمّكم إلى صفوفهم، أو استدرار أصواتكم إبان استحقاقات معيّنة.
فلتطمئن نفوسكم. لا أبتغي منكم شيئاً، وما أضعه اليوم بين أيديكم ليس سوى رسالة أنوي عبرها مخاطبةَ قلوبكم وعقولكم، كما أرغب من خلالها أن أتقاسم معكم الانشغالات ومشاعر السخط التي آنستها فيكم. إنها كذلك دعوة إلى التفكير وفرصة لاستعادة الأحلام التي تفتقتْ في نفسي، بفضلكم، منذ تفتح زهرة شبابي.
من أكون حتى أدّعي حقَّ مخاطبتكم بهذه الطريقة؟ بعضكم يعرفني ككاتب، ولعلهم استحسنوا كتبي أو ربما لم ترق لهم، بيد أنهم يدركون ـ آمل ذلك على أي حال ـ أنني عملت، رفقة زملاء آخرين من جيلي، في سبيل خلق أدب وثقافة جديدين، قادرين على إحياء ذاكرتنا الجماعية، وإعادة بناء هويتنا وانفتاحها على ما هو كوني، والتعبير عن الجوانب المتعددة لإنسانيتنا.
أعلم جيداً أن مساهمتي تلك لا تمنحني امتيازاً خاصاً. ولكنها سمحت لي على الأقل بأن أكون قريباً من معيشكم، من تساؤلاتكم، من احتياجاتكم، من سلوككم في المجتمع وفي حياتكم الخاصة، من خصالكم ومن عيوبكم، من تناقضاتكم، ومن ذلك الشيء الذي أحبه فيكم أكثر من غيره: قدرتكم على التخلص من هموم حياتكم اليومية الشاقة بابتسامة صغيرة. إن الضحك العفوي في وجه أول فرد منكم تضعه الصدفة في طريقي ليغمرني بالسعادة. وهذه أجمل هدية ما فتئتُ أتلقاها من صحبتكم.
بعضكم الآخر، وهم أكثر عدداً على الأرجح، على علم بالتزامي السياسي المبكر، وبالمعارك التي خضتُها كمثقف مواطن، وما تعرّضتُ له من محن، رفقة مئات من المناضلين. كما يدركون، على ما أعتقد، أن الكرامة الإنسانية كانت دائماً في مقدمة انشغالاتي منذ بداية مساري. وقد نشأ وعيي الأخلاقي ثم السياسي وأنا أقف على انتهاكها في بلدي. إن المظالم التي كان بنو وطني يتعرّضون لها فتحتْ عيني على الوضع البشري بشكل عام، سواء في فلسطين أو في أي رقعة أخرى من العالم، حيث كانت الشعوب تكافح الهيمنة الاستعمارية أو مختلف أنظمة الاستغلال والاستبداد.
أما الانشغال الآخر الذي يؤرّقني والذي سأعود لبسطه في ما بعد، فيتمثل في سؤال الديمقراطية الحارق، وفي المكانة التي يُفتَرضُ في التعليم والثقافة والبحث العلمي احتلالَها ضمن أي مشروع ديمقراطي جدير بهذا الاسم.
وحين أتأمل هذا المسار، يظل مبعث فخري الوحيد أنني توفّقت في التحرّر من الإيديولوجيات المغلقة، وصرت أفكّر بروح نقدية أدمجتُ فيها الممارسةَ الصعبة للنقد الذاتي، أنني أفلحتُ في أن أصير إنساناً حراً مبدؤه الابتعاد عن مراكز السلطة والسياسة السياسوية. وهذا الموقف، الذي لا رجعة عنه، يعكس تصوّري الخاص لما يسمى بالالتزام.
إنه، في تقديري، أفضل وسيلة لأكون معكم في الخندق ذاته، وأشارككم أفراحكم وأتراحكم، وأنصت إلى شكاواكم وتطلعاتكم، وأكون في خدمتكم بكل أمانة، في حدود ما تخَوّلُهُ لي إمكاناتي، دون أن أخدعكم أو أخفي اختلافي عنكم بخصوص بعض معتقداتكم، أو ما يثير حنقي من سلوكاتكم. فهكذا أتصوّر الاحترام الواجب لكم، ولِمَ لا أقولها، المحبة التي أكِنُّها لكم.
هناك أخيراً أولئك الذين سيكتشفون، بفضل هذه الرسالة، من أكون والدوافع التي كانت تحرّكني وما زالت. هل لي أن أعاتبهم على جهلهم لوجودي كل هذا الوقت؟ فأنا أدرك جيداً أنه تم القيام، في بلادنا، بكل شيء حتى لا تكون الكلمة القائمة على الحقيقة، الكلمة الحرة، وبالخصوص كلمة المفكرين والمبدعين، مسموعة، حتى لا تكون الثقافة جزءاً من الحقوق والحاجيات الأساسية للمواطن، حتى لا تكون، كما هو الحال عند الأمم المتقدمة، مِلْكاً عمومياً. لكن هذه مسألة أخرى سأتناولها في وقتها.
*من كتاب "مغرب آخر.. رسالة إلى المواطنين"
**ترجمة: امبارك مرابط