07 نوفمبر 2024
دويلة عميقة أقوى من دولة سطحية
دولتان تحكمان لبنان اليوم. الأولى دولة رسمية، تاريخية، معترف بها دولياً، تشرّع، يُنتخب ممثلوها، لها مؤسسات وقوانين وإجراءات. وتغذّت، مع الوقت، بجميع مواصفات الدولة السطحية: فهي دولة "خارجية"، تتوزّع بين أقطاب إقليمية أو دولية. دولة خفيفة، معدومة الحساسية، طائشة، ترتكب الهفوة إثر الهفوة، ولكنها ليّنة، رشيقة، تخلّص نفسها كل مرة مثل الشعرة من العجين. وهي فوق ذلك مزيفة، تشبه المعادن الرخيصة المطلية بالذهب؛ ما يسمح لها بأن تتمادى في حذلقاتها، وفي إخراج أرانبها من قبعتها. فيبدو الناطقون باسمها كأنهم ألمعيين، ينطقون بالجواهر الخالدة، يتباهون بها، يروّجونها. شيء يشبه غرور رجال الصالونات ونسائه، بنوع من "السنوبيزم" الإجتماعي. ما يسمح لها بالتمادي في الخدعة، البصرية خصوصاً. فيسهّل تمرير صورة غير صحيحة عن رجالاتها. إنهم في الواقع شاردون، كثيرو النسيان، غير منتبهين، غير مهتمين، بلا قناعات. وهذا ما يجعل أفكارهم مقتضبة، ساذجة، متقطعة، تنقلب على نفسها بسَلاسَة. ودولة مقسّمة، موزّعة، عرجاء، بلا فائدة، بلا جدوى، بلا قيمة. وبلا خطر إلا على محكوميها. وكلها أوصافٌ تنطبق على الدولة السطحية التي يمكن أن تراها بالعين المجرّدة.
الثانية هي الدويلة، المتمثلة بالممانعة، بقيادة حزب الله. هي ليست خافيةً على أحد. هي عميقة، بمعنى أنها تشكل جسماً يحمل كل مواصفات الدولة، لكنه موازٍ للدولة الرسمية. وسمتها
الرئيسية أنها تحمل سلاحاً متفوقا على سلاح الدولة الرسمية، وتعود قراراتها ومرجعياتها إلى خارج هذه الدولة، بدولةٍ أقوى منها. وتمتلك خيوطاً وشبكات في هذا الخارج، علنية وسرية، هي التي تسيّر وجهة البلاد، ومصيره. إنها دويلة مطلقة، واثقة، كاملة، وربما حتمية أيضاً. دويلة ذكية، مدركة، ماهرة، أبدية، مستمرة، لا حدود لمجالاتها ولنشاط عسْكرها، لا وطنية، ولا رسمية؛ دويلة مجرّدة، متملّكة، متعصّبة، متحمّسة، حصرية، كئيبة، متجهّمة، بعيدة.. دويلة سرية في دواخلها، مبْهمة، رصينة، مغلقة، معْتمة. دويلة يعرف عصرها الفواجع والشؤم والجنائز؛ رتيبة، مزعجة، مميتة. وذلك لأنها دويلةٌ بعضلاتٍ منفوخةٍ مفتولة، مسلحة بكل الصواريخ والبنادق.. مفرطة في غَلَبتها. وهي تختلف عن الدولة الرسمية بتماسكها، بوحدة العصبية التي تعتمد عليها، وبوفرة مواردها. ولذلك هي دويلة إشكالية؛ مثيرة للقلق، غير مفهومة تماماً، لقلّة شفافيتها. تحمل كل مواصفات الدولة الاستبدادية الدينية.
الديناميكية الحاكمة للعلاقة بين الدولة والدويلة هي من باب العجائب. الإثنتان موجودتان في مجال الدولة الرسمية. وذلك لسبب منطقي بديهي: أن الدويلة تسعى دائما إلى الحصول على الصفة الرسمية للدولة، كسباً لمزيد من القوة. التبادل بين الدولة والدويلة يوصف بـ"الإيجابي" لأن رجال الدولة السطحية "الحكماء"، المسؤولين عن "مصير الوطن والمواطن"، لا يتحملون أن يكونوا في المعارضة، خارج سلطة الدولة، وإلا أفلسوا. غايتهم في هذه الدنيا، أي بقاؤهم في الحكم، أي استنزافهم موارد الدولة، لن يمر من دون "إيجاد صيغة للتعايش" مع أهل الدويلة. صيغة يسمونها "تسوية"، أو "محاصصة"، هي في الواقع التسمية المموّهة لأشد أنواع الصفقات ركاكةً. وقانون الانتخاب الذي أقرّته الدولة السطحية هو ترجمة شبه حرفية لمعنى "التعايش" المنشود بين الدولة والدويلة. قانون يجمّله بند النسبية، ولكن يمكن اعتباره منتهى التشتت الوطني اللبناني، مسخاً متأخراً من مسوخ نظامه، يمدّ الدويلة بمزيد من الغلَبة.
لا يمكن أن يدوم "التعايش" بين الدولة والدويلة، لولا ملامح مشتركة تجمع الإثنتَين. على المرء أن يتحلى بدرجةٍ معينة من الخبث، ومن ضآلة الضمير، لكي يجد نفسه صاحب دور، كبير أو صغير، على هذه الخشَبة. أن يكون وجهه متهرّباً، وجفنه مشدوداً، وعيونه زائغة.. أن يعتقد، بأنه بذلك يمكن أن يمرِّر الخدعة، من أنه يصدق كل كلمة يقولها على الملأ.
ويسمح هذا "الانسجام" لرجال الدولة والدويلة بالتباكي المنهجي على "غياب" الدولة اللبنانية، على ضعفها وتقاعسها وإفلاسها. كأنهم يتكلمون عن دولةٍ أخرى. عن دولةٍ في الخيال، الخيال التعبوي البدائي، الذي يتصوّر أن الجمهور يصغي إليه بشغف، لا بملَل مزمن. "وينية الدولة؟" هي التعويذة الأيقونية التي تلخص لأزماتهم العلنية. لكنهم لا يكتفون بهذا الطقس اللغوي،
تنقصهم الأحجبة التي تقيهم من الشرّ والحسد، فتحميهم بذلك من الفهم والسؤال. وعندما يسبّحون بورع عن الدولة الضائعة، بدهشتهم المزيّفة تلك، يتنصّلون بذلك من كل المسؤوليات: مسؤولية الدولة السطحية في بناء هذه الدولة المرتجاة وتعزيزها وتمكينها، أولاً. ثم مسؤولية الدويلة العميقة في التكوّن على أساس نقض الدولة المنشودة. وهذا تنصّل يسمح لرجالات الدولة والدويلة أن يصولوا ويجولوا في البلاغة المعروفة "الناقدة" للدولة: بعدما يكونون قد أشبعوا الدولة تطييفاً وفساداً وانحلالا، ها هم ينشدون، عشية الانتخابات، وعبر مرشحيهم، معزوفة كرههم الطائفية، وعملهم "المقبل" ضد الفساد، وصيغهم الجاهزة للـ"النهوض بالمؤسسات"، وغيره من الوعود التنموية، وبالازدهار والأمن؛ الأمن خصوصاً، وهي واحدةٌ من الثمرات الجوهرية لـ"إنجازات" الصفقة التي حالت دون إطلاق رصاصات الرحمة على رؤوس أهل الدولة الرسمية السطحية.
هذا ما استطاع إنتاجه النظام السياسي اللبناني حتى الآن. تطوّرت الدولة فيه، أو بالأحرى قاومت الموت بطرقها الفريدة. كانت قابلةً للتطويع، للامّحاء، للاستقالة، كلما هدّدتها عوامل عسكرية أو ضغوط خارجية، حتى بلغت الآن مرحلة اهترائها، لا نعلم آخرتها. خرج هذا النظام من الحرب الأهلية متعافياً، بكل عافيته الطائفية، فاسحاً المجال أمام الدولة العميقة. فلولا هذا النظام، ولولا الحرب، لما كان وُجد حزب الله، ولما غابت مقاومة جبروته، الناعم والخشن، بغير الأدوات الطائفية التي أوجدته. لما بلغنا من مفارقةٍ تصعب على الكافر: إذ أصبحنا محكومين بدويلة ودولة: الأولى، العميقة، أقوى من الثانية، السطحية، المنسجمة معها.
الثانية هي الدويلة، المتمثلة بالممانعة، بقيادة حزب الله. هي ليست خافيةً على أحد. هي عميقة، بمعنى أنها تشكل جسماً يحمل كل مواصفات الدولة، لكنه موازٍ للدولة الرسمية. وسمتها
الديناميكية الحاكمة للعلاقة بين الدولة والدويلة هي من باب العجائب. الإثنتان موجودتان في مجال الدولة الرسمية. وذلك لسبب منطقي بديهي: أن الدويلة تسعى دائما إلى الحصول على الصفة الرسمية للدولة، كسباً لمزيد من القوة. التبادل بين الدولة والدويلة يوصف بـ"الإيجابي" لأن رجال الدولة السطحية "الحكماء"، المسؤولين عن "مصير الوطن والمواطن"، لا يتحملون أن يكونوا في المعارضة، خارج سلطة الدولة، وإلا أفلسوا. غايتهم في هذه الدنيا، أي بقاؤهم في الحكم، أي استنزافهم موارد الدولة، لن يمر من دون "إيجاد صيغة للتعايش" مع أهل الدويلة. صيغة يسمونها "تسوية"، أو "محاصصة"، هي في الواقع التسمية المموّهة لأشد أنواع الصفقات ركاكةً. وقانون الانتخاب الذي أقرّته الدولة السطحية هو ترجمة شبه حرفية لمعنى "التعايش" المنشود بين الدولة والدويلة. قانون يجمّله بند النسبية، ولكن يمكن اعتباره منتهى التشتت الوطني اللبناني، مسخاً متأخراً من مسوخ نظامه، يمدّ الدويلة بمزيد من الغلَبة.
لا يمكن أن يدوم "التعايش" بين الدولة والدويلة، لولا ملامح مشتركة تجمع الإثنتَين. على المرء أن يتحلى بدرجةٍ معينة من الخبث، ومن ضآلة الضمير، لكي يجد نفسه صاحب دور، كبير أو صغير، على هذه الخشَبة. أن يكون وجهه متهرّباً، وجفنه مشدوداً، وعيونه زائغة.. أن يعتقد، بأنه بذلك يمكن أن يمرِّر الخدعة، من أنه يصدق كل كلمة يقولها على الملأ.
ويسمح هذا "الانسجام" لرجال الدولة والدويلة بالتباكي المنهجي على "غياب" الدولة اللبنانية، على ضعفها وتقاعسها وإفلاسها. كأنهم يتكلمون عن دولةٍ أخرى. عن دولةٍ في الخيال، الخيال التعبوي البدائي، الذي يتصوّر أن الجمهور يصغي إليه بشغف، لا بملَل مزمن. "وينية الدولة؟" هي التعويذة الأيقونية التي تلخص لأزماتهم العلنية. لكنهم لا يكتفون بهذا الطقس اللغوي،
هذا ما استطاع إنتاجه النظام السياسي اللبناني حتى الآن. تطوّرت الدولة فيه، أو بالأحرى قاومت الموت بطرقها الفريدة. كانت قابلةً للتطويع، للامّحاء، للاستقالة، كلما هدّدتها عوامل عسكرية أو ضغوط خارجية، حتى بلغت الآن مرحلة اهترائها، لا نعلم آخرتها. خرج هذا النظام من الحرب الأهلية متعافياً، بكل عافيته الطائفية، فاسحاً المجال أمام الدولة العميقة. فلولا هذا النظام، ولولا الحرب، لما كان وُجد حزب الله، ولما غابت مقاومة جبروته، الناعم والخشن، بغير الأدوات الطائفية التي أوجدته. لما بلغنا من مفارقةٍ تصعب على الكافر: إذ أصبحنا محكومين بدويلة ودولة: الأولى، العميقة، أقوى من الثانية، السطحية، المنسجمة معها.