14 فبراير 2018
ديغول وإسرائيل.. إعجاب ثم رفض احتلال 1967
هل هو احتفال رسمي؟ تجمّع غفير شبه ديني؟ عرض مسرحي؟ كانت المؤتمرات الصحافية التي يعقدها رئيس الدولة، الجنرال ديغول، تسير حسب مراسم محسوبة بدقة، وطقوس مهيبة تتماشى والشخصية التي تظهر فيها. في ذلك اليوم من نوفمبر/ تشرين الثاني 1967، كان رئيس الجمهورية قد جمع أكثر من ألف صحافي فرنسي وأجنبي في قصر الإليزيه. وبنبرة مَهيبة، لا تخلو من الشاعرية، عرض الجنرال رؤيته للإصلاحات المُنجزة في فرنسا تحت إشرافه والتحوّلات العميقة التي عمل على تحقيقها. كما دعا إلى أن يصبح دستور الجمهورية الخامسة "طبيعة (الفرنسيين) الثانية، سياسياً". وفي عالم منقسم، بسبب الحرب الباردة والأزمات، خصّص ديغول مساحة واسعة للمسائل الدولية. ولعلّ أكثر الأزمات تهديداً للسلم العالمي كانت تدور آنذاك في فيتنام، حيث كان أكثر من 400 ألف جندي أميركي ينشطون في الميدان. كما تطرّق إلى رحلته إلى الكيبيك في كندا، وشرح تصريحه "يحيا الكيبيك الحر"، فيما أعرب عن رفضه انضمام المملكة المتحدة إلى المجموعة الاقتصادية الأوروبية، وعن قلقه من أزمة النظام المالي العالمي.
"لن نسمح بتدميركم"
وبطبيعة الحال، لم يكن بإمكانه بعد ستة أشهر من الحرب العربية الإسرائيلية في يونيو/ حزيران 1967 أن يتجاهل الشرق الأوسط. وقال إن "مصر تسببت، في 22 مايو/ أيار، للأسف بقضيّة خليج العقبة، مقدمةً بذلك ذريعة لمن كان يبحث عن ذريعة. وكانت الحكومة الفرنسية قد أعلنت رسميّاً في 2 يونيو/ حزيران أنّها ستُحمّل المسؤولية لأيّ طرفٍ يبادر بالهجوم المسلّح. وهو ما كرّرَته بكل وضوح لكل الدول المعنيّة. وما قلته بنفسي في 24 مايو/ أيار لوزير الخارجية الإسرائيلي، ابا إيبان، الذي التقيته في باريس؛ إذا ما هوجمت إسرائيل، فإنّنا لن نسمح بتدميرها، ولكن إن أنتم هاجمتم فسوف نُدين مبادرتكم. والمؤكّد أنّكم إذا قمتم بذلك ستظفرون بنجاحات عسكريّة، إذ إنّكم، وعلى الرغم من القلّة العددية لشعبكم، أكثر تنظيماً وأكثر تكتّلاً وأفضل تسلّحاً من العرب. لكنّكم ستجدون أنفسكم في ما بعد متورّطين على الأرض، وفي مأزقٍ متنام في نظر المجموعة الدولية، لاسيما أنّ الحرب في الشرق لا يمكن إلّا أن تزيد من التوتر المحزن في العالم، وأن يكون لها عواقب مؤسفة لعدّة بلدان. كما ستُنسَب لكم شيئاً فشيئاً كل السيّئات، بما أنّكم أصبحتم مُحتَلّين. نعرف اليوم أن صوت فرنسا لم يُسمع، إذ قامت إسرائيل بالهجوم، محقّقةً الأهداف التي أرادتها في ستّة أيّام".
وبعدما كرّر ديغول إدانته هذا الهجوم، ذكّر بأنّه يجب إجراء تسوية تقوم على إجلاء الأراضي التي أُخذت بالقوّة، وإنهاء جميع أشكال القتال واعتراف الدول المعنيّة بعضها ببعض. بعد ذلك، ومن خلال قرارات الأمم المتحدة، وبحضور قواتها ضمانة، سيكون ممكنا ترسيم الحدود بدقة وتحييد شروط العيش والأمن لكلا الجانبين ومصير اللاجئين والأقليّات وآليات التنقل الحرّ للجميع في خليج العقبة، وفي قناة السويس.
وهذا ليس أمرا جديدا بالنظر لكلّ ما سبق أن أعلنته الحكومة الفرنسية حتى ذلك الحين. حتى أنّ الصحف لم تذكر الشرق الأوسط في اليوم التالي إلاّ نقطة من مجمل النقاط الواردة، فيما خصّصت عناوينها الرئيسية لمواضيع أخرى. فنشرت "فرانس سوار" عنواناً على خمسة أعمدة "الجنرال ديغول: يجب أن يحلّ الذهب مكان الدولار، الأخير لم يعد يشكل ضمانةً في التبادلات العالمية". ونشرت "لو فيغارو" "الجنرال ديغول يؤكّد معارضته دخول إنكلترا للسوق المشتركة". وصحيفة لورو "ديغول: لا لإنكلترا". فيما أوردت صحيفة كومبا المعارضة بشدّة لديغول "ديغول يخاطر بنشوب الأزمات"، ملحقة بذلك عنواناً فرعياً "تمادى ديغول أمس في كل خطوط سياساته الخارجية، إلى درجة الاستفزاز".
إفراط وغلو
مع ذلك، نشب بعد أربع وعشرين ساعة سجال غذّته ردّات الفعل التي أثارها في تلّ أبيب جزء من خطاب ديغول، كان قد مرّ من دون أن يثير الانتباه. كان ديغول يتحدّث عن نشوء إسرائيل. وخشية بعضهم من أنّ اليهود الّذين كانوا، حتى ذلك الحين، مُشتّتين والّذين بقوا، مثل ما كانوا في كل الأزمنة، شعباً نُخبوياً، واثقاً من نفسه ميالاً للسيطرة، سيُحيلون أمانيهم المؤثرة التي ظلت تراودهم منذ تسعة عشرة قرنا في أن يلتقوا "العام المقبل في القدس" إلى طموحٍ جامح، ونزعة للغزو، حالما يجتمعون في مواقع مجدهم الغابر.
وقد تحدّث هوبير بوف-ميري، مدير صحيفة لوموند، في 29 نوفمبر/ تشرين الثاني (في العدد الذي نُشر 28 من الشهر نفسه)، عن "إشارات معاداة للساميّة". واستنكر جان دانييل في مجلة لو نوفيل أوبسيرفاتور "طيف الكاتب موراس" الذي يسكن ديغول؛ بينما تساءل جان جاك سيرفان-شريبير في افتتاحيته في مجلة ليكسبريس إلى أين سيذهب ديغول بالإفراط والغلو؟ وبلغ به الأمر المطالبة بـ"عزله من منصبه".
في المذكرات التي كتبها بعد عامين من ذلك التاريخ، عبّر ديغول عن ندمه على الحماسة التي أخذته، "كان يجب، حتّى في ذلك الظرف، أن أحتفظ ببرودة أعصابي.. إنني عاطفي وانفعالي بطبعي". وكان التعبير غير موفّق، لاسيما لإظهاره اليهود مجموعة متجانسة، وفي الأمر مفارقة، حيث يتوافق هذا النوع من التصنيف مع طريقة تصوير الصهيونية نفسها لليهود. لكن ماذا عن الاتهام بمعاداة السامية؟ وهي تهمة سيدحضها مؤسس إسرائيل، ديفيد بن غوريون، في رسالة وجّهها إلى الجنرال في 6 ديسمبر/ كانون الأول 1967:
لقد امتنعتُ عن ضم صوتي لصوت العديد من الناس في فرنسا وإسرائيل وبلدان أخرى، الذين وجهوا نقداً مُجحفاً لما ورد على لسانكم، لأنّهم لم يتمعّنوا في العبارة المذكورة بالجديّة
المطلوبة. (...) وبما أنني كنت رئيس وزراء (لإسرائيل) في عهد الجمهورية الخامسة، فأنا أعرف أنّ علاقات الصداقة مع فرنسا، منذ إعادة ولادة دولة اسرائيل، قد تواصلت حتى تحت الجمهورية الخامسة، ولم أكن بحاجةٍ إلى أن أنتظر صداقةً أكثر وفاءً وأكثر صدقاً من صداقتك.
ولم يكن ديغول كذلك مُعادياً للصهيونية، فقد عبّر مجدّداً في مؤتمره الصحافي عن إعجابه بقيام دولة إسرائيل. لذا، وبصرف النظر عن تضافر الأموال وتأثير البروباغندا، وهو ما حصل عليه الاسرائيليون من أوساط يهودية من أميركا وأوروبا وعدّة بلدان، منها فرنسا، فقد كانوا ينظرون برضا لقيام دولتهم على الأرض التي اعترفت لهم بها القوى الكبرى، آملة أن يتمكّنوا، بقليل من التواضع، من إيجاد صيغة عيش سلميّة مع جيرانهم.
إنّه إعجاب قديم يشهد له به سفير إسرائيل في باريس، جاكوب تسور، الذي زاره في 28 نيسان/ إبريل 1955 "قال لي ديغول إنّه يعتبر قيام الدولة اليهودية ضرورةً تاريخية. من حقّ الشعب اليهودي أن ينتظر التعويض عن الظلم الذي كان ضحيّته قرونا"، معبّراً عن احترامه "مواهب اليهود وفكرهم الواضح والمنطقي ولحيويتهم".
قطع غيار لطائرات الميراج
كان هذا السجال حول معاداة السامية المزعومة للرجل الذي وجه "نداء" في 18 يونيو/ حزيران 1940 بغرض تجديد الهجمة على مواقفه التي تبنّاها في يونيو/ حزيران 1967. وهي مواقف أقلّ ما يقال عنها إنّها لم تكن بديهية. كانت فرنسا طوال الخمسينيات الحليف الأوفى لإسرائيل، مزوّدةً جيشها بالأجهزة المتطوّرة وبطائرات الميراج، وساعدتها على اكتساب التكنولوجيا العسكرية النووية. وكانت قد شاركت في حملة السويس المشينة عام 1956، والتي وافق عليها ديغول في ذلك الحين. لا شكّ أنّ فرنسا، ومنذ نهاية حرب الجزائر، قد تخلّت عن التزامها "ببعض الروابط الخاصّة والوثيقة" التي أقامتها الجمهورية الخامسة مع إسرائيل، كما يُؤكّد الجنرال في مؤتمره الصحافي، في قوله "بعد استقلال الجزائر عام 1962، استأنفنا علاقاتنا مع الشعوب العربية في المشرق، وسياسة الصداقة والتعاون التي كانت سياسة فرنسا قرونا في هذا الجزء من العالم، والتي يُملي العقل والشعور أن تكون اليوم أحد أُسس عملنا في الخارج". إلا أنّه استدرك "لكنّنا طبعاً أوضحنا للعرب أنّ إسرائيل بالنسبة لنا أمر واقع، ولن نسمح بتدميرها ".
وعلى الرغم من حظر بيع الأسلحة في المنطقة في يونيو/ حزيران 1967، واصلت فرنسا تزويد تل أبيب بقطع غيار طائرات الميراج. (ستتوقف المبيعات في يناير/ كانون الثاني 1969 إثر الغارة الإسرائيلية على مطار بيروت، وتدمير أسطول الطيران المدني اللبناني ما مكّن إسرائيل من الحفاظ على سيطرتها على الأجواء). مع ذلك، فإنّ موقف الجنرال فاجأ المسؤولين السياسيين ووسائل الإعلام والرأي العام. حتى أصدقاؤه "الديغوليون" (المؤيدون له) لم يُساندوه. وكانت قد شُكّلت منذ 16 مايو/ أيار 1967 اللجنة الفرنسية للتضامن مع إسرائيل برئاسة الجنرال بيار كونيغ، وضمّت نوّاباً من كل الأطياف (باستثناء الشيوعيين)، عاكسةً إجماعاً واسعاً، إذ كان فيها كلود جيرار ماركوس، مناصر ديغول، وميشال بونياتويسكي (الجمهوري المستقلّ، من حركة فاليري جيسكار ديستان)، والراديكالي موريس فور، وساندها غاستون ديفير (الفرع الفرنسي من الرابطة الدولية العمّالية – الحزب الاشتراكي).
كما شنت الصحافة حملةً للتعاطف مع إسرائيل (داود الصغير المحاط بأكثر من جالوت عظيم)، وحذرت من "ميونيخ" جديدة وإبادة جديدة. وكتبت صحيفة باري- جور في 2 يونيو/ حزيران غداً، من جديد، ستعود صرخات "الكابو " حراس المعتقلات النازية، وصوت نباح الكلاب، وصياح الأطفال الذين يُعَذَبون، ثم يأتي الانفجار الذي سيُنهي الكابوس". هل إسرائيل مهدّدة بالموت؟ يتساءل جان دانييل في مجلة لو نوفيل أبوسيرفاتور: "نعم، من دون شك. هل يمكن أن نقبل بذلك؟ لا، مهما كان الثمن".
"عربٌ مُتخمون حشيشاً"
فضلاً عن الخشية من إبادة جديدة، راحت العنصريةٌ المفضوحة ضد العرب تفعل فعلها، خمس سنوات بعد استقلال الجزائر. فقد كتب الكاتب في صحيفة لورور، سارج غروسار، في 24 مايو/ أيار "ألفا (هكذا!) سنة من التقصير الإسلامي حوّلت جنّة الذهب والعسل هذه (فلسطين) إلى سُهوب جرداء". وواصلت الصحيفة حديثها عن العرب "المحقونين بالكراهية من خلال أكثر الحملات تعصّبا منذ غوبلز، والمتخمين بالحشيش والمغيّبين بالأفيون"، والطامعين في "الثروات الجديدة المغرية للشعب العبري"، وراحت صحيفة لو فيغارو تؤكّد أنّ الإذاعات العربية تَعِد الجموع العربية بكروم الجليل وبرتقال يافا وبنات تل أبيب. (الاستشهادات مقتطفة من كتاب سمير قصير وفاروق مردم بيك "مسارات من باريس إلى القدس.. فرنسا والنزاع العربي الإسرائيلي.. 1958-1985" 1993).
في مثل هذه الظروف، باتت العاطفة جيّاشة في الرأي العام، واتسعت حملات التجنيد مساندةً لإسرائيل. وقد تجمّع في 31 مايو/ أيار 1967، ثلاثون ألف متظاهر أمام سفارة إسرائيل في باريس وآلاف في المناطق الأخرى: ستة آلاف شخص في مرسيليا، وخمسة آلاف في تولوز ونيس، وألفان وخمسمائة في ستراسبورغ وليون، وألفان في نانسي وميتز ومونبولييه. احتشدت الجالية اليهودية بشكل كبير، مدعومةً بوصول العديد من ذوي "الأقدام السوداء" (قدامى المستوطنين الفرنسيين المرحّلين من الجزائر بعد الاستقلال) اليهود. وقد عبّر فنانون ومثقفون عن تضامنهم، فكتب سارج غانسبور، المغني البعيد عن أي التزام، أغنية "رمال إسرائيل" التي أكّد فيها استعداده للموت من أجل بلد لم تطأه قدماه من قبل.
كانت الأصوات المعارضة قليلة. حتى أنّ رجلاً مثل جان بول سارتر، الملتزم بالنضال ضد الاستعمار بصفة حاسمة في الجزائر وغيرها، والذي كتب توطئة كتاب "المعذّبون في الأرض" لمؤلفه فرانز فانون، قد وقّع نداءً يشير إلى "إرادة إسرائيل السلمية". وكَتب في مقدمة عدد خاص من صحيفة لي تان موديرن مقالاً، مطلع حزيران/يونيو: نحن شديدو الحساسية تجاه كلّ ما يُمكنه من قريب أو بعيد أن يُشبه معاداة الساميّة. يرد أصدقاؤنا العرب على ذلك بأنّهم ليسوا معادين للساميّة، لكنهم معادون للإسرائيليين. ولكن بالنسبة لنا، كيف يمكنهم أن يمنعوا هؤلاء الإسرائيليين من أن يكونوا يهوداً؟" (إثر موقف سارتر حول حرب 1967 طالبت أرملة فرانز فانون أن تحذف تلك التوطئة من الطبعات الجديدة للكتاب). ويمحو سارتر بكتابته هذه كل البعد الاستعماري في حلول مستوطنين يهود في فلسطين، وهو ما تحدّث عنه ماكسيم رودينسون في العدد نفسه تحت عنوان "إسرائيل.. واقع استعماري؟".
احتلال، مقاومة، إرهاب...
لم تتبع صحيفة تيموانياج كريتيان الأسبوعية الاتجاه السائد بدقّ طبول الحرب، إلا أن القوّة الحقيقية الوحيدة التي انتقدت السياسة الإسرائيلية هي الحزب الشيوعي الفرنسي، وقد أدانه كثيرون، واتهموه بأنّه "عميل لموسكو". كتب رئيس تحرير لومانيتي رينيه أندريوو في 30 مايو/ أيار 1967 "تتحمّل حكومة إسرائيل التي يتراءى من ورائها ظلّ الإمبريالية الأميركية
مسؤولية الخلاف الذي يضع شعوب الشرق الأوسط على حافة الحرب". وكان من الأوائل الذين أخذوا بالاعتبار الواقع الفلسطيني الغائب عن مجمل التحليلات "لا يمكننا أن نقبل الطريقة التي طَرَدَ بها المسؤولون الإسرائيليون أكثر من مليون عربي من فلسطين، واستباحوا أملاكهم (في عامي 1948 و1949)"، مُضيفاً "السبب الأساسي للنّزاع متعلّق بالرفض الإسرائيلي لعودة اللاجئين إلى بيوتهم". (ظل الحزب الشيوعي شديد التحفظ بعد حرب 1967 على كفاح الفلسطينيين المسلّح وعلى منظمات الفدائيين).
في جوّ هستيريّ كهذا، لم يكن مفاجئا أن تنشر صحيفة فرانس سوار، وهي من أهم الصحف اليومية الفرنسية، على خمسة أعمدة، العنوان "المصريّون يهاجمون إسرائيل"، فيما تُعلن صحيفة لو بوبيلار، التابعة للفرع الفرنسي من الرابطة الدولية العُمالية، إسرائيل تقاوم منتصرة بعدما هوجمت من كل الجوانب، "لم يكن في حينها الحديث عن "الأخبار المزيفة" رائجاً كما هو اليوم" ....
على الرغم من كل الصعاب، تمسّك ديغول بموقفه، وطالب بالعودة إلى حدود 4 يونيو/ حزيران 1967. وسرعان ما قدّرت فرنسا أيضاً أهمية العامل الفلسطيني في الأزمة التي اندلعت. وقد تميّز ديغول، المعزول في الساحة السياسية الداخلية، بموقفه عن حلفائه الغربيين، لاسيما الولايات المتحدة. ومع ذلك، جعل كل من خلفه بعد ذلك يتبنّى مواقفه على مر السنين، بمن فيهم الذين انتقدوا هذه المواقف بشدّة على غرار فاليري جيسكار ديستان (1974-1981) وفرانسوا ميتيران (1981-1995). وهي مواقف سينتهي الأمر بـ"المجتمع الدولي" إلى تبنّيها في الثمانينيات: رفض اجتياح الأراضي بالقوّة؛ حقّ الفلسطينيين في تقرير المصير؛ ضرورة الحوار مع منظمة التحرير الفلسطينية.
ولعلّ هذه الجملة من مؤتمره الصحافي في 27 نوفمبر/ تشرين الثاني 1967 تبيّن الرؤية التنبؤية للرجل: تُعِدّ اسرائيل اليوم، على الأراضي التي أخذتها، لاحتلالٍ لا يمكن أن يكون من دون ظلم وقمع وتهجير، وستظهر ضدّه المقاومة التي سيصفها بدوره بالإرهاب...".
"لن نسمح بتدميركم"
وبطبيعة الحال، لم يكن بإمكانه بعد ستة أشهر من الحرب العربية الإسرائيلية في يونيو/ حزيران 1967 أن يتجاهل الشرق الأوسط. وقال إن "مصر تسببت، في 22 مايو/ أيار، للأسف بقضيّة خليج العقبة، مقدمةً بذلك ذريعة لمن كان يبحث عن ذريعة. وكانت الحكومة الفرنسية قد أعلنت رسميّاً في 2 يونيو/ حزيران أنّها ستُحمّل المسؤولية لأيّ طرفٍ يبادر بالهجوم المسلّح. وهو ما كرّرَته بكل وضوح لكل الدول المعنيّة. وما قلته بنفسي في 24 مايو/ أيار لوزير الخارجية الإسرائيلي، ابا إيبان، الذي التقيته في باريس؛ إذا ما هوجمت إسرائيل، فإنّنا لن نسمح بتدميرها، ولكن إن أنتم هاجمتم فسوف نُدين مبادرتكم. والمؤكّد أنّكم إذا قمتم بذلك ستظفرون بنجاحات عسكريّة، إذ إنّكم، وعلى الرغم من القلّة العددية لشعبكم، أكثر تنظيماً وأكثر تكتّلاً وأفضل تسلّحاً من العرب. لكنّكم ستجدون أنفسكم في ما بعد متورّطين على الأرض، وفي مأزقٍ متنام في نظر المجموعة الدولية، لاسيما أنّ الحرب في الشرق لا يمكن إلّا أن تزيد من التوتر المحزن في العالم، وأن يكون لها عواقب مؤسفة لعدّة بلدان. كما ستُنسَب لكم شيئاً فشيئاً كل السيّئات، بما أنّكم أصبحتم مُحتَلّين. نعرف اليوم أن صوت فرنسا لم يُسمع، إذ قامت إسرائيل بالهجوم، محقّقةً الأهداف التي أرادتها في ستّة أيّام".
وبعدما كرّر ديغول إدانته هذا الهجوم، ذكّر بأنّه يجب إجراء تسوية تقوم على إجلاء الأراضي التي أُخذت بالقوّة، وإنهاء جميع أشكال القتال واعتراف الدول المعنيّة بعضها ببعض. بعد ذلك، ومن خلال قرارات الأمم المتحدة، وبحضور قواتها ضمانة، سيكون ممكنا ترسيم الحدود بدقة وتحييد شروط العيش والأمن لكلا الجانبين ومصير اللاجئين والأقليّات وآليات التنقل الحرّ للجميع في خليج العقبة، وفي قناة السويس.
وهذا ليس أمرا جديدا بالنظر لكلّ ما سبق أن أعلنته الحكومة الفرنسية حتى ذلك الحين. حتى أنّ الصحف لم تذكر الشرق الأوسط في اليوم التالي إلاّ نقطة من مجمل النقاط الواردة، فيما خصّصت عناوينها الرئيسية لمواضيع أخرى. فنشرت "فرانس سوار" عنواناً على خمسة أعمدة "الجنرال ديغول: يجب أن يحلّ الذهب مكان الدولار، الأخير لم يعد يشكل ضمانةً في التبادلات العالمية". ونشرت "لو فيغارو" "الجنرال ديغول يؤكّد معارضته دخول إنكلترا للسوق المشتركة". وصحيفة لورو "ديغول: لا لإنكلترا". فيما أوردت صحيفة كومبا المعارضة بشدّة لديغول "ديغول يخاطر بنشوب الأزمات"، ملحقة بذلك عنواناً فرعياً "تمادى ديغول أمس في كل خطوط سياساته الخارجية، إلى درجة الاستفزاز".
إفراط وغلو
مع ذلك، نشب بعد أربع وعشرين ساعة سجال غذّته ردّات الفعل التي أثارها في تلّ أبيب جزء من خطاب ديغول، كان قد مرّ من دون أن يثير الانتباه. كان ديغول يتحدّث عن نشوء إسرائيل. وخشية بعضهم من أنّ اليهود الّذين كانوا، حتى ذلك الحين، مُشتّتين والّذين بقوا، مثل ما كانوا في كل الأزمنة، شعباً نُخبوياً، واثقاً من نفسه ميالاً للسيطرة، سيُحيلون أمانيهم المؤثرة التي ظلت تراودهم منذ تسعة عشرة قرنا في أن يلتقوا "العام المقبل في القدس" إلى طموحٍ جامح، ونزعة للغزو، حالما يجتمعون في مواقع مجدهم الغابر.
وقد تحدّث هوبير بوف-ميري، مدير صحيفة لوموند، في 29 نوفمبر/ تشرين الثاني (في العدد الذي نُشر 28 من الشهر نفسه)، عن "إشارات معاداة للساميّة". واستنكر جان دانييل في مجلة لو نوفيل أوبسيرفاتور "طيف الكاتب موراس" الذي يسكن ديغول؛ بينما تساءل جان جاك سيرفان-شريبير في افتتاحيته في مجلة ليكسبريس إلى أين سيذهب ديغول بالإفراط والغلو؟ وبلغ به الأمر المطالبة بـ"عزله من منصبه".
في المذكرات التي كتبها بعد عامين من ذلك التاريخ، عبّر ديغول عن ندمه على الحماسة التي أخذته، "كان يجب، حتّى في ذلك الظرف، أن أحتفظ ببرودة أعصابي.. إنني عاطفي وانفعالي بطبعي". وكان التعبير غير موفّق، لاسيما لإظهاره اليهود مجموعة متجانسة، وفي الأمر مفارقة، حيث يتوافق هذا النوع من التصنيف مع طريقة تصوير الصهيونية نفسها لليهود. لكن ماذا عن الاتهام بمعاداة السامية؟ وهي تهمة سيدحضها مؤسس إسرائيل، ديفيد بن غوريون، في رسالة وجّهها إلى الجنرال في 6 ديسمبر/ كانون الأول 1967:
لقد امتنعتُ عن ضم صوتي لصوت العديد من الناس في فرنسا وإسرائيل وبلدان أخرى، الذين وجهوا نقداً مُجحفاً لما ورد على لسانكم، لأنّهم لم يتمعّنوا في العبارة المذكورة بالجديّة
ولم يكن ديغول كذلك مُعادياً للصهيونية، فقد عبّر مجدّداً في مؤتمره الصحافي عن إعجابه بقيام دولة إسرائيل. لذا، وبصرف النظر عن تضافر الأموال وتأثير البروباغندا، وهو ما حصل عليه الاسرائيليون من أوساط يهودية من أميركا وأوروبا وعدّة بلدان، منها فرنسا، فقد كانوا ينظرون برضا لقيام دولتهم على الأرض التي اعترفت لهم بها القوى الكبرى، آملة أن يتمكّنوا، بقليل من التواضع، من إيجاد صيغة عيش سلميّة مع جيرانهم.
إنّه إعجاب قديم يشهد له به سفير إسرائيل في باريس، جاكوب تسور، الذي زاره في 28 نيسان/ إبريل 1955 "قال لي ديغول إنّه يعتبر قيام الدولة اليهودية ضرورةً تاريخية. من حقّ الشعب اليهودي أن ينتظر التعويض عن الظلم الذي كان ضحيّته قرونا"، معبّراً عن احترامه "مواهب اليهود وفكرهم الواضح والمنطقي ولحيويتهم".
قطع غيار لطائرات الميراج
كان هذا السجال حول معاداة السامية المزعومة للرجل الذي وجه "نداء" في 18 يونيو/ حزيران 1940 بغرض تجديد الهجمة على مواقفه التي تبنّاها في يونيو/ حزيران 1967. وهي مواقف أقلّ ما يقال عنها إنّها لم تكن بديهية. كانت فرنسا طوال الخمسينيات الحليف الأوفى لإسرائيل، مزوّدةً جيشها بالأجهزة المتطوّرة وبطائرات الميراج، وساعدتها على اكتساب التكنولوجيا العسكرية النووية. وكانت قد شاركت في حملة السويس المشينة عام 1956، والتي وافق عليها ديغول في ذلك الحين. لا شكّ أنّ فرنسا، ومنذ نهاية حرب الجزائر، قد تخلّت عن التزامها "ببعض الروابط الخاصّة والوثيقة" التي أقامتها الجمهورية الخامسة مع إسرائيل، كما يُؤكّد الجنرال في مؤتمره الصحافي، في قوله "بعد استقلال الجزائر عام 1962، استأنفنا علاقاتنا مع الشعوب العربية في المشرق، وسياسة الصداقة والتعاون التي كانت سياسة فرنسا قرونا في هذا الجزء من العالم، والتي يُملي العقل والشعور أن تكون اليوم أحد أُسس عملنا في الخارج". إلا أنّه استدرك "لكنّنا طبعاً أوضحنا للعرب أنّ إسرائيل بالنسبة لنا أمر واقع، ولن نسمح بتدميرها ".
وعلى الرغم من حظر بيع الأسلحة في المنطقة في يونيو/ حزيران 1967، واصلت فرنسا تزويد تل أبيب بقطع غيار طائرات الميراج. (ستتوقف المبيعات في يناير/ كانون الثاني 1969 إثر الغارة الإسرائيلية على مطار بيروت، وتدمير أسطول الطيران المدني اللبناني ما مكّن إسرائيل من الحفاظ على سيطرتها على الأجواء). مع ذلك، فإنّ موقف الجنرال فاجأ المسؤولين السياسيين ووسائل الإعلام والرأي العام. حتى أصدقاؤه "الديغوليون" (المؤيدون له) لم يُساندوه. وكانت قد شُكّلت منذ 16 مايو/ أيار 1967 اللجنة الفرنسية للتضامن مع إسرائيل برئاسة الجنرال بيار كونيغ، وضمّت نوّاباً من كل الأطياف (باستثناء الشيوعيين)، عاكسةً إجماعاً واسعاً، إذ كان فيها كلود جيرار ماركوس، مناصر ديغول، وميشال بونياتويسكي (الجمهوري المستقلّ، من حركة فاليري جيسكار ديستان)، والراديكالي موريس فور، وساندها غاستون ديفير (الفرع الفرنسي من الرابطة الدولية العمّالية – الحزب الاشتراكي).
كما شنت الصحافة حملةً للتعاطف مع إسرائيل (داود الصغير المحاط بأكثر من جالوت عظيم)، وحذرت من "ميونيخ" جديدة وإبادة جديدة. وكتبت صحيفة باري- جور في 2 يونيو/ حزيران غداً، من جديد، ستعود صرخات "الكابو " حراس المعتقلات النازية، وصوت نباح الكلاب، وصياح الأطفال الذين يُعَذَبون، ثم يأتي الانفجار الذي سيُنهي الكابوس". هل إسرائيل مهدّدة بالموت؟ يتساءل جان دانييل في مجلة لو نوفيل أبوسيرفاتور: "نعم، من دون شك. هل يمكن أن نقبل بذلك؟ لا، مهما كان الثمن".
"عربٌ مُتخمون حشيشاً"
فضلاً عن الخشية من إبادة جديدة، راحت العنصريةٌ المفضوحة ضد العرب تفعل فعلها، خمس سنوات بعد استقلال الجزائر. فقد كتب الكاتب في صحيفة لورور، سارج غروسار، في 24 مايو/ أيار "ألفا (هكذا!) سنة من التقصير الإسلامي حوّلت جنّة الذهب والعسل هذه (فلسطين) إلى سُهوب جرداء". وواصلت الصحيفة حديثها عن العرب "المحقونين بالكراهية من خلال أكثر الحملات تعصّبا منذ غوبلز، والمتخمين بالحشيش والمغيّبين بالأفيون"، والطامعين في "الثروات الجديدة المغرية للشعب العبري"، وراحت صحيفة لو فيغارو تؤكّد أنّ الإذاعات العربية تَعِد الجموع العربية بكروم الجليل وبرتقال يافا وبنات تل أبيب. (الاستشهادات مقتطفة من كتاب سمير قصير وفاروق مردم بيك "مسارات من باريس إلى القدس.. فرنسا والنزاع العربي الإسرائيلي.. 1958-1985" 1993).
في مثل هذه الظروف، باتت العاطفة جيّاشة في الرأي العام، واتسعت حملات التجنيد مساندةً لإسرائيل. وقد تجمّع في 31 مايو/ أيار 1967، ثلاثون ألف متظاهر أمام سفارة إسرائيل في باريس وآلاف في المناطق الأخرى: ستة آلاف شخص في مرسيليا، وخمسة آلاف في تولوز ونيس، وألفان وخمسمائة في ستراسبورغ وليون، وألفان في نانسي وميتز ومونبولييه. احتشدت الجالية اليهودية بشكل كبير، مدعومةً بوصول العديد من ذوي "الأقدام السوداء" (قدامى المستوطنين الفرنسيين المرحّلين من الجزائر بعد الاستقلال) اليهود. وقد عبّر فنانون ومثقفون عن تضامنهم، فكتب سارج غانسبور، المغني البعيد عن أي التزام، أغنية "رمال إسرائيل" التي أكّد فيها استعداده للموت من أجل بلد لم تطأه قدماه من قبل.
كانت الأصوات المعارضة قليلة. حتى أنّ رجلاً مثل جان بول سارتر، الملتزم بالنضال ضد الاستعمار بصفة حاسمة في الجزائر وغيرها، والذي كتب توطئة كتاب "المعذّبون في الأرض" لمؤلفه فرانز فانون، قد وقّع نداءً يشير إلى "إرادة إسرائيل السلمية". وكَتب في مقدمة عدد خاص من صحيفة لي تان موديرن مقالاً، مطلع حزيران/يونيو: نحن شديدو الحساسية تجاه كلّ ما يُمكنه من قريب أو بعيد أن يُشبه معاداة الساميّة. يرد أصدقاؤنا العرب على ذلك بأنّهم ليسوا معادين للساميّة، لكنهم معادون للإسرائيليين. ولكن بالنسبة لنا، كيف يمكنهم أن يمنعوا هؤلاء الإسرائيليين من أن يكونوا يهوداً؟" (إثر موقف سارتر حول حرب 1967 طالبت أرملة فرانز فانون أن تحذف تلك التوطئة من الطبعات الجديدة للكتاب). ويمحو سارتر بكتابته هذه كل البعد الاستعماري في حلول مستوطنين يهود في فلسطين، وهو ما تحدّث عنه ماكسيم رودينسون في العدد نفسه تحت عنوان "إسرائيل.. واقع استعماري؟".
احتلال، مقاومة، إرهاب...
لم تتبع صحيفة تيموانياج كريتيان الأسبوعية الاتجاه السائد بدقّ طبول الحرب، إلا أن القوّة الحقيقية الوحيدة التي انتقدت السياسة الإسرائيلية هي الحزب الشيوعي الفرنسي، وقد أدانه كثيرون، واتهموه بأنّه "عميل لموسكو". كتب رئيس تحرير لومانيتي رينيه أندريوو في 30 مايو/ أيار 1967 "تتحمّل حكومة إسرائيل التي يتراءى من ورائها ظلّ الإمبريالية الأميركية
في جوّ هستيريّ كهذا، لم يكن مفاجئا أن تنشر صحيفة فرانس سوار، وهي من أهم الصحف اليومية الفرنسية، على خمسة أعمدة، العنوان "المصريّون يهاجمون إسرائيل"، فيما تُعلن صحيفة لو بوبيلار، التابعة للفرع الفرنسي من الرابطة الدولية العُمالية، إسرائيل تقاوم منتصرة بعدما هوجمت من كل الجوانب، "لم يكن في حينها الحديث عن "الأخبار المزيفة" رائجاً كما هو اليوم" ....
على الرغم من كل الصعاب، تمسّك ديغول بموقفه، وطالب بالعودة إلى حدود 4 يونيو/ حزيران 1967. وسرعان ما قدّرت فرنسا أيضاً أهمية العامل الفلسطيني في الأزمة التي اندلعت. وقد تميّز ديغول، المعزول في الساحة السياسية الداخلية، بموقفه عن حلفائه الغربيين، لاسيما الولايات المتحدة. ومع ذلك، جعل كل من خلفه بعد ذلك يتبنّى مواقفه على مر السنين، بمن فيهم الذين انتقدوا هذه المواقف بشدّة على غرار فاليري جيسكار ديستان (1974-1981) وفرانسوا ميتيران (1981-1995). وهي مواقف سينتهي الأمر بـ"المجتمع الدولي" إلى تبنّيها في الثمانينيات: رفض اجتياح الأراضي بالقوّة؛ حقّ الفلسطينيين في تقرير المصير؛ ضرورة الحوار مع منظمة التحرير الفلسطينية.
ولعلّ هذه الجملة من مؤتمره الصحافي في 27 نوفمبر/ تشرين الثاني 1967 تبيّن الرؤية التنبؤية للرجل: تُعِدّ اسرائيل اليوم، على الأراضي التي أخذتها، لاحتلالٍ لا يمكن أن يكون من دون ظلم وقمع وتهجير، وستظهر ضدّه المقاومة التي سيصفها بدوره بالإرهاب...".