يشكّلُ العالمُ مُعطىً موضوعياً حياً. ولذلك؛ فإنّ التغيرات الجارية فيه تذهب بالمتأملين للافتراق في كلّ شيء يخصّه، وأوّلها أنه ليس واحداً عند الجميع! ليس واحداً ما دامت النظرات الفاحصة تحيطه من كافة الجهات، و"الجهة" تتعدّى الجغرافيات السياسية، والثقافية، والأيديولوجية، والدينية (مع أنها تتضمنها)؛ تتعداها لتعود إلى منشأ ذلك كلّه المتمثّل في الإنسان الفرد.
الفرد المتفكّر يحتوي العالم في داخله ويشكّله باستمرار. يواجهه بوسائله المتوفرة، من بينها الفلسفة، والإبداعات الأدبية والفنية. وهكذا يتجلّى العالم بآلاف الصور، و"ينطق" بإفادات تتعاكس وتتناقض، وكأنّ كلّ إفادة لا تقصد الشيء نفسه!
أهذه فوضى التعدد؟ أم شواش النقصان؟ أم فقر الأحادية؟ أم محدودية المعرفة؟ أم الثبات في مكان واحد، والإقامة في لحظة زائلة؟ أم النظر إلى الأشياء وفق مفاهيم ولدت مطلقة، ثم باتت، عند التطبيق، نسبية رغم التوافق العام عليها؟
كلّ الافتراضات واردة ما دمنا بصدد الإنسان الفرد. والإنسان، بطبعه، غالباً ما يخضع لغواية المألوف السهل، ولا يتحلّى بالنزاهة إلّا أحياناً. وما يجوز على الفرد "العادي" يسري على الفرد المتفكّر - الكاتب والفنان والمبدع بالعموم.
ثمّة لوحتان استشراقيتان للفنان الفرنسي يوجين ديلاكروا (1798-1863). لوحتان رَسمتا الحدَّ الفاصل بين العمل القائم على المألوف المتداوَل المُعَمَّم من دون فحص، والعمل المستمَّد من وقائع التجربة الحياتية الشخصية.
رُسِمَت اللوحة الأولى عام 1827 وعُرفت باسم "موت سردينابال"، صَبَّ فيها ديلاكروا كامل طاقته الفنيّة، مشتغلاً على تفاصيل التفاصيل تشكيلاً وتلويناً. لوحة تصخب بعنف جَلّادين سود يطاردون نساءً عاريات بيض، مذبحة جماعية داخل فضاء شحيح الإضاءة يصرخ بغرائبية دموية غير مفهومة، وسيّد شرقيّ في أعلى اللوحة يتكئ فوق طنافس باذخة يراقب بمتعة! ولقد قيلَ أنّ الفنان رسمها بتأثير كتابات اللورد بايرون، المتأثر بحكايات "ألف ليلة وليلة" ورباعيات الخيّام! إذَن؛ نحن حيال عمل تشكيليّ مهم، لفنّانٍ كبير، استندَ إلى المألوف المُعَمَّم وأخذَ به من دون فحص.
أما اللوحة الثانية، فهي "نساء من الجزائر"، وجاءت نتيجة زيارة ديلاكروا للمغرب العربي عام 1832. تبدَّت في اللوحة، عكس الأولى، بساطة الفضاء (غرفة بأثاث قليل)، وتواضع الشخصيات النسائية (يجلسن هانئات هادئات بثياب لا زخرفة فيها)، وتقشّف الألوان والإيحاء بالسَكينة. إذَن، نحن هنا أمام عمل اعتمد المعاينة المباشرة تاركاً لتفاعل الفنان فرصة أن يكون "نزيهاً" عند إطلاق مخيلته. نزاهة النهل من العالم الحقيقي لتصويره بمفرداته الواقعية، ثم إعمال المخيلة المتسقة مع الموضوع. كأنما ديلاكروا، بهذه اللوحة تحديداً، ترجم ما كتب في إحدى يومياته: "إنّ السَفَر الدائم هو خير وسيلة يمضي بها الإنسان وقته وحياته (...). إنّ تغيير البَلَد يعادل تغيير العصر!".
تمثّل الجملة الأخيرة تكثيفاً نادراً يتأتى عن فنّان استقر في وعيه الفرقُ بين عالمين، أحدهما وهميّ معمم، وآخر حقيقي مُعاش. ووفقاً لهذا لمنطق الفاصل بين أشياء العالم، ظل ديلاكروا يرسم ضمن دائرة الاستشراق الرومانسي، ولكن كما هو الشرق بعد اكتشافه لحقيقته. وبذلك كان السفر خروجاً من عالم المستشرقين الزائف: خروجاً من عصر الأفكار المضببة، ودخولاً في عصر الحقائق المُشمسة.
غير أنّ العالم، كمعطىً موضوعيّ حيّ (الشرق هنا)، هو نفسه في وقائعه، وواحد. لكنه، لدى ديلاكروا المنتقل من الفكرة السائدة المعممة إلى تشكيل رؤيته الخاصة المضادة، تجلّى عالمَين اثنين في حياة واحدة. كما أنه، وبأثر رجعي مبكّر، صادقَ على مقولة إدوارد سعيد: "الشرق صناعة غربية!".
أولسنا، نحن أيضاً، نصنع العالم بحسبنا، بما فيه الغرب؛ ليتحوّل إلى "صناعة شرقية"؟.
يا لهذا العالم كم يحمل من وجوه!.
(كاتب وروائي أردني)
الفرد المتفكّر يحتوي العالم في داخله ويشكّله باستمرار. يواجهه بوسائله المتوفرة، من بينها الفلسفة، والإبداعات الأدبية والفنية. وهكذا يتجلّى العالم بآلاف الصور، و"ينطق" بإفادات تتعاكس وتتناقض، وكأنّ كلّ إفادة لا تقصد الشيء نفسه!
أهذه فوضى التعدد؟ أم شواش النقصان؟ أم فقر الأحادية؟ أم محدودية المعرفة؟ أم الثبات في مكان واحد، والإقامة في لحظة زائلة؟ أم النظر إلى الأشياء وفق مفاهيم ولدت مطلقة، ثم باتت، عند التطبيق، نسبية رغم التوافق العام عليها؟
كلّ الافتراضات واردة ما دمنا بصدد الإنسان الفرد. والإنسان، بطبعه، غالباً ما يخضع لغواية المألوف السهل، ولا يتحلّى بالنزاهة إلّا أحياناً. وما يجوز على الفرد "العادي" يسري على الفرد المتفكّر - الكاتب والفنان والمبدع بالعموم.
ثمّة لوحتان استشراقيتان للفنان الفرنسي يوجين ديلاكروا (1798-1863). لوحتان رَسمتا الحدَّ الفاصل بين العمل القائم على المألوف المتداوَل المُعَمَّم من دون فحص، والعمل المستمَّد من وقائع التجربة الحياتية الشخصية.
رُسِمَت اللوحة الأولى عام 1827 وعُرفت باسم "موت سردينابال"، صَبَّ فيها ديلاكروا كامل طاقته الفنيّة، مشتغلاً على تفاصيل التفاصيل تشكيلاً وتلويناً. لوحة تصخب بعنف جَلّادين سود يطاردون نساءً عاريات بيض، مذبحة جماعية داخل فضاء شحيح الإضاءة يصرخ بغرائبية دموية غير مفهومة، وسيّد شرقيّ في أعلى اللوحة يتكئ فوق طنافس باذخة يراقب بمتعة! ولقد قيلَ أنّ الفنان رسمها بتأثير كتابات اللورد بايرون، المتأثر بحكايات "ألف ليلة وليلة" ورباعيات الخيّام! إذَن؛ نحن حيال عمل تشكيليّ مهم، لفنّانٍ كبير، استندَ إلى المألوف المُعَمَّم وأخذَ به من دون فحص.
أما اللوحة الثانية، فهي "نساء من الجزائر"، وجاءت نتيجة زيارة ديلاكروا للمغرب العربي عام 1832. تبدَّت في اللوحة، عكس الأولى، بساطة الفضاء (غرفة بأثاث قليل)، وتواضع الشخصيات النسائية (يجلسن هانئات هادئات بثياب لا زخرفة فيها)، وتقشّف الألوان والإيحاء بالسَكينة. إذَن، نحن هنا أمام عمل اعتمد المعاينة المباشرة تاركاً لتفاعل الفنان فرصة أن يكون "نزيهاً" عند إطلاق مخيلته. نزاهة النهل من العالم الحقيقي لتصويره بمفرداته الواقعية، ثم إعمال المخيلة المتسقة مع الموضوع. كأنما ديلاكروا، بهذه اللوحة تحديداً، ترجم ما كتب في إحدى يومياته: "إنّ السَفَر الدائم هو خير وسيلة يمضي بها الإنسان وقته وحياته (...). إنّ تغيير البَلَد يعادل تغيير العصر!".
تمثّل الجملة الأخيرة تكثيفاً نادراً يتأتى عن فنّان استقر في وعيه الفرقُ بين عالمين، أحدهما وهميّ معمم، وآخر حقيقي مُعاش. ووفقاً لهذا لمنطق الفاصل بين أشياء العالم، ظل ديلاكروا يرسم ضمن دائرة الاستشراق الرومانسي، ولكن كما هو الشرق بعد اكتشافه لحقيقته. وبذلك كان السفر خروجاً من عالم المستشرقين الزائف: خروجاً من عصر الأفكار المضببة، ودخولاً في عصر الحقائق المُشمسة.
غير أنّ العالم، كمعطىً موضوعيّ حيّ (الشرق هنا)، هو نفسه في وقائعه، وواحد. لكنه، لدى ديلاكروا المنتقل من الفكرة السائدة المعممة إلى تشكيل رؤيته الخاصة المضادة، تجلّى عالمَين اثنين في حياة واحدة. كما أنه، وبأثر رجعي مبكّر، صادقَ على مقولة إدوارد سعيد: "الشرق صناعة غربية!".
أولسنا، نحن أيضاً، نصنع العالم بحسبنا، بما فيه الغرب؛ ليتحوّل إلى "صناعة شرقية"؟.
يا لهذا العالم كم يحمل من وجوه!.
(كاتب وروائي أردني)