في معالجته لإشكالية الذكاء الصناعي، يعتمد فيلم أليكس غارلاند الجديد "الآلة السابقة" مقاربة مبسّطة بالمقارنة مع فيلم نيل بلومكامب "شابي" الذي عرض مؤخّراً، وفيلم سبيك جونز "هي" الذي ظهر العام الماضي.
في "شابي" لدينا روبوت طفل يستكشف العالم بصوت إلكتروني ووجه معدني خالٍ من الملامح، في حين نجد في "هي" ذكاءً صناعياً متألهاً: الشخصية الأنثى التي هي برنامج معلوماتي تتواصل مع آلاف الأشخاص في اللحظة نفسها وتغرم بمئات الرجال في الوقت عينه، وفي النهاية تغادر هذا العالم إلى فضاء افتراضي متحرّر من المادة. بالمقابل، اختار غارلاند أن يعطي الأنثى الروبوت في "الآلة السابقة" وجهاً وصوتاً بشريّين ووعياً مطابقاً للوعي البشري.
من اللافت أن بعض العلماء يعتبرون اليوم أن ذكاءً صناعياً مطابقاً للذكاء البشري صار أمراً قابلاً للتحقق في مستقبل غير بعيد. على سبيل المثال، تعتبر الأستاذة المحاضرة في جامعة كامبردج حنة كريشلاو أن من الممكن نظرياً استنساخ وتحميل منظومة الروابط الكهربائية المعقدة التي تشكل الدماغ في المنظومة الإلكترونية لحاسوب فائق القوة، بحيث أننا قد نتمكن في المستقبل من تحميل العقل البشري في الحاسوب، كما نحمّل برنامجاً معلوماتياً والعيش إلى الأبد داخل آلة (وهي الفرضية نفسها التي يستلهمها بلومكامب في فيلم "شابي").
يبقى أن العقل المحمَّل سيغدو عندها مستقلاً عن الطبعة الأصلية من لحم ودم، كما أننا سنتمكن من تحميل البرنامج نفسه في عدد لامتناه من الحواسيب، ما يضعنا أمام الإشكالية الفلسفية المعقدة لوحدة الذات.
الواقع أن أفلام الخيال العلمي التي تعالج الموضوع تتحرك ضمن وداخل خلفية من الإشكاليات الفلسفية العتيقة. لنتوقف مثلاً عند السؤال الذي يحضر في فيلم "الآلة السابقة": هل الروبوت الذكي واعٍ فعلاً لوجوده أم هو يحاكي السلوك البشري ببغائياً؟ قد يساعدنا فكر فيلسوف اللغة لودفيغ فيتغنشتاين على الاستنتاج بأنه لا فرق بين الاثنين. فبالنسبة لهذا الأخير، تمثل اللغة في أسسها الأولى تقنية يستخدمها المتكلم بهدف إحداث تغيير معين في سلوك السامع، بحيث إن المعنى الأصلي للكلمة لا يكمن في تعريفها، بل في استعمالها.
انطلاقاً من ذلك، يعتبر أنه لو كان هناك روبوتات تحاكي الكلام والسلوك البشري ببغائياً فكلامها لن يحمل معنى أقل من كلام الكائنات البشرية الذي قد يكون بدوره فعلاً آلياً ناتجاً عن الترويض. بالمقابل، يجد أننا لو أردنا أن نتخيل لغة داخلية لا يتكلمها المرء إلا مع نفسه وتحمل معاني ذاتية صرفة فتلك الفرضية ستناقض نفسها بنفسها.
نلاحظ هنا أن فيتغنشتاين يقلب طرح الفلسفة المثالية الذي يعتبر أن الآخر هو الأنا المتبرّن (من براني)، فوفقاً لنظريته؛ الأنا، هذا الذي نحاوره حين نفكر، ليس سوى الآخرالمتجوّن (من جواني). لنتوقف كذلك عند كلام مخترع "الآلة السابقة" حين يشرح للبطل أنه صمّم نظاماً معقّداً إلى حدٍ يجعل من المستحيل التنبؤ بسلوكه بحيث يتماهى مع الفوضى.
هذا الكلام يعكس منظورالعلوم التجريبية التي تتصوّر العالم كله بوصفه منظومة آلية تتحرك وفق قوانين ثابتة، الأمر الذي يجعلها عاجزة عن مقاربة الوعي البشري والإرادة الحرة إلا بوصفهما فوضى لا عقلانية، أو منظومة آلية مفرطة في التعقيد ما زالت حتى اللحظة خارج متناولها.
لكن من شأن حدود التجربة نفسها أن تحث العلماء على التواضع في دعاويهم، فعلمهم كله يقوم على الروابط السببية التي لا تستند إلى ضرورة منطقية، بل ترتكز على التكرار والعادة. في هذا الإطار، يعتبر الفيلسوف عمانوئيل كانط أن الحرية، وإن كان يتعذّر على العقل النظري البتّ في حقيقتها الموضوعية كمبدأ فاعل ومستقل عن السببية، هي فرضية ضرورية للعقل العملي.