نستقبل هذا النص باعتباره أيقونة من أيقونات الأدب السياسي، وبعضهم يضعه ضمن الخيال العلمي-السياسي، وهو نص له حمولته الاستشرافية التي لا تنكر. ونحن كقرّاء عرب لا نجد صعوبة في الاندماج في عوالمه وربط علاقات عدة بينه وبين واقعنا، رغم أننا قرّاء نأتيه من مناخ ثقافي مختلف عن مرجعياته وما فيه من إشارات لتاريخ سياسي بعينه عاشته أوروبا في النصف الأول من القرن العشرين.
أحياناً قد نشعر أن "الأخ الكبير" مستلهم من تراث الاستبداد المعاصر عندنا. نستطيع أن نستحضر بسهولة أشباهاً لـ"الأخ الكبير" في تونس ومصر وليبيا وسورية والعراق وغيرها من البلاد، حتى من غير البلاد العربية والتي سمعنا عن طغيان قادتها في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية.
لكن ما قد يكسر هذا الاندماج الذي قد يعيشه قارئ عربي هو أن أورويل تخيّل سطوة "الأخ الأكبر" باعتبارها نتاج جهاز ضخم، دقيق وقوي يُخضع كل ما حوله ويضعه في فلك القائد الزعيم الذي يرى كل شيء ويحضر في كل شيء. في حين لم يكن لدى أي "أخ كبير عربي" مثل ذلك، كان كل واحد منهم محاطاً بجهاز رثّ عاجز عن تحقيق أبسط متطلبات الدولة، فما بالنا بالهيمنة على المجتمع وابتلاعه، ورغم ذلك كان "الأخ الأكبر" في هذه الزرعة العربية أو تلك يحقّق سطوة مثل سطوة "الأخ الأكبر" في "1984".
لم يكن "الأخ الأكبر العربي" يوظّف التكنولوجيا بل كان يمنعها في الغالب أو يحدّ منها. لم يكن يوظّف العلوم الاجتماعية للسيطرة على المجتمع، فلم يكن هناك تقريباً باحثون. ولم يجر الاستثمار في الصورة الإعلامية كي تبدو أكثر واقعية من الواقع ومؤثرة في الأذهان، بل جرى إنتاج صور مليئة بالتكرار وضيق الأفق الفكري والذوقي. ورغم كل ذلك هيمن "الأخ الأكبر العربي" على المجتمع وخنقه.
هذه التجارب العربية والأفريقية كانت تشير إلى أنه يمكن صناعة "أخ كبير" بمواد بسيطة للغاية، ليس كما اعتقد أورويل، حيث يجري توظيف كل تقدّم علمي لخدمة الطغيان. القمع في "1984" كان عبارة عن آلة عملاقة ما فوق بشرية، والقمع في أكثر من بلاد عربية لم يكن أكثر من مجموعة وشايات ودناءات.
حين سقط أكثر من "أخ أكبر" عربي شاهد الجميع هشاشة ما سمّي بـ"أنظمة قمعية"، حتى من حافظ على توازنه فقد كان ذلك عن طريق صفقات معقّدة وبفضل دعم من خارج الإطار الداخلي.
لم يتحدّث أورويل عما بعد "الأخ الأكبر". في بلدان "الربيع العربي"، نعتقد أحياناً أننا نعيش ما لم يتخيله، ولكن في الحقيقة لم نعش ديكتاتوريات بالمعنى الذي كان يعنيه، كانت هناك حالة من التثاؤب العام وقلة الحيلة والوعي، حالة قفز فوقها بعضهم فأصبح "أخاً أكبر". ومن المؤسف أن هناك إلى اليوم من يريد أن يكون "أخاً أكبر".