يُلقّب بـ"الناقد المحب"، وهاتان الصفتان تبدوان للوهلة الأولى متنافرتَين؛ فهذا يعني أن الناقد المصري علي الراعي (1920 - 1999) لم يكتب إلّا عمّا يحب ومن يحب، وأنه شكّل جسراً من الحميمية مع النصوص التي اختار أن يقرأها ناقداً متفحّصاً. وعن ذلك قال مرّة: "إنني لا أكتب نقداً بقدر ما أُحاول أن أردّ الجميل للكاتب الذي أمتعني من خلال كتاباته"، وهذا ليس تصريحاً عابراً بل هو وجهة نظر في ماهية النقد بالنسبة إليه، وسواء اتّفق أي منّا مع هذا المنظور أو اختلف، فإن قائله هو أحدُ أكثر الباحثين العرب الذين شغفوا بالأدب والمسرح، وشغلوا حياتهم بالكتابة والتوثيق عنهما، وطرحوا الأسئلة الأساسية حول جذور الفنّين، وحرصوا على تأصيلهما وتحريرهما من مقولة التبعية الثقافية.
نذكر الراعي هنا، تزامناً مع الذكرى المئوية لميلاده التي تحلّ اليوم، السابع عشر من آب/أغسطس الجاري. وقد أعلنت مؤسّسات ثقافية مصرية، رسمية وغير رسمية، عن مجموعة من المحاضرات والندوات التي تحتفي بالإرث الذي تركه أحد أغزر النقّاد العرب في زمانه.
كرّس جهده للكتابة على نحو معمّق في المسرح والرواية
عاش الراعي حياةً كلُّها كتبٌ في كتب، كانت الثقافة زاده وزوّاده، الثقافة بمعناها الكبير والواسع، وبجغرافيا لم تقتصر على مصر، بل إن اهتمامه بفنون محيطه العربي لم يقِل وزناً عن انغماسه في نتاج الوسط الثقافي في بلاده، ولكنه كرّس جهده للكتابة على نحو متخصّص ومعمّق في المسرح والرواية.
في كتاباته عن المسرح، حرص الراعي على أن يُقدّم تاريخه وأهم فنّانيه، كتّاباً وممثّلين ومخرجين، في الثقافتين العربية والغربية، وكانت مؤلّفاته تدور دائماً حول ومن خلال علاقة المسرح بمحيطه الاجتماعي، فضلاً عن إبراز التفاعل بين المسرح والسياق الاجتماعي الذي يحيط به.
ومن كتبه المهمّة في هذا المجال: "المسرح في الوطن العربي" الذي صدر عام 1980 ضمن سلسلة "عالم المعرفة" في الكويت التي سافر إليها عام 1973 وأقام فيها قرابة تسع سنواتٍ مدرّساً للأدب الإنكليزي في جامعتها، قبل أن يعود إلى بلاده عام 1982. وقد خصّص فصلاً من الكتاب لكلّ بلد عربي. أُعيد طبع الكتاب عام 1999 بعد رحيل مؤلّفه، وكتب له فاروق عبد القادر مقدّمةً قال فيها: "ارتبطت حياة الراعي بفن المسرح ارتباطاً وثيقاً، وهو يحدّثنا في القليل الذي كتبه عن سيرته الذاتية عن المؤثّرات المختلفة التي غَرست في قلبه عشق المسرح وفن التمثيل منذ كان صبياً في مدينة الإسماعيلية ثمّ في أثناء دراسته الجامعية في القاهرة".
أرّخ للمسرح وأهم فنّانيه في الثقافتين العربية والغربية
وبالفعل، فإنَّ مَن يقرأ كتاب الراعي "هموم المسرح وهمومي" (1994)، يكتشف الكثير عن الثقافة ككل، وعن علاقتها بالسياسي والاجتماعي أيضاً؛ فقد نسج تجربته الشخصية لتصير جزءاً لا ينفصل عمّا مرّ به المسرح في مصر قبل وبعد هزيمة 1967؛ العام الذي أحاله فيه وزير الثقافة المصري آنذاك، ثروت عكاشة، إلى التقاعد وهو لم يُكمل السابعة والأربعين، بعد أن قضى قرابة ثماني سنواتٍ على رأس "مؤسّسة المسرح" (بين 1959 و1967)، وهي السنوات التي مثّلت ذروة ازدهار المسرح المصري.
وُلد علي الراعي في محافظة الإسماعيلية، وكانت مدينةً مفتوحة على جنسيات مختلفة، وفيها مسرحٌ وأشكال فرجة وفنون متعدّدة يتردّد عليها، ثم استمرّت علاقته بالمسرح أثناء دراسته الجامعية في القاهرة بين عامي 1939 و1943، عمل بعدها في الإذاعة، ثم سافر إلى إنكلترا لدراسة المسرح عام 1951، وأنجز أطروحته لنيل الدكتوراه حول مسرح برنارد شو، متخصّصاً في العوامل الفكرية والفنية التي كوّنت هذا المسرح.
من كتبه الأساسية في النقد المسرحي أيضاً ثلاثية "مسرح الشعب" (1993) التي ضمّت "الكوميديا المرتجلة في المسرح المصري"، و"فن الكوميديا من خيال الظل إلى نجيب الريحاني"، و"مسرح الدم والدموع". وفي مقدّمة هذه الثلاثية يقول: "لا شيء يبرّر انعزال الكتّاب عن كوميديا الشعب - ومن ثمّ عن الشعب نفسه - سوى عدم معرفتهم بالتراث الكبير الذي تجمّع للشعب في هذا المجال الفتّان، ومن ثَمَّ أخذتُ على عاتقي هذه المهمّة الثقيلة - مهمّة أن أصل ما بين الكتّاب المثقّفين وبين تراث الناس في المسرح بأمل أن يتبيّنوا، كما أتبيّن أنا، أنه لا مستقبل حقيقيا لكوميدياتهم ما لم تتّصل أسبابها بفن الكوميديا الشعبية".
أمّا في الرواية، فقد وثق الراعي للرواية المصرية في كتابه "دراسات في الرواية المصرية"، وكذلك في "حديث عيسى بن هشام للمويلحي بين المقامة والرواية"، و"زينب لهيكل بين الرواية والنثر الفني"، و"دعاء الكروان لطه حسين بين الفن والشعر والخطابة"، و"الرواية في الوطن العربي"، وله كتاب "شخصية المحتال في المقامة والحكايات والرواية والمسرحية"، وفيه درس جذور شخصية المحتال في الرواية، والتي تعود إلى مقامات الهمذاني والحريري وألف ليلة وليلة.
كان مشروع علي الراعي في كتاباته عن الرواية شديد الخصوصية؛ فهو، كما يقول الناقد سيد بحراوي، "حاول أن يبحث عن أصول درامية في الأشكال الشعبية التي رأى أنها امتدت لدى المسرحيّين المعاصرين، خاصّةً في فنّ الكوميديا. وأظنُّ أنه - في هذا الصدد - قد أمسك بملامح شديدة الأهمية؛ لأنها أكثر دقّةً من تلك التي أمسك بها يوسف إدريس على سبيل المثال. وهذا أمر يحتاج إلى دراسة خاصّةً متأنّية".
في مئويته، تفتتح وزارة الثقافة المصرية احتفالية، اليوم الإثنين، تبدأ بعرض فيلمٍ تسجيلي عنه، شاركت في تنفيذه ابنتُه ليلى الراعي وأخرجه ياسر عبد الجواد، ويقدّم فيه مجموعةٌ مِن الكتّاب شهادات وأوراقاً عن تجربته؛ من بينهم الشاعر جرجس شكري، والكاتبة سلوى بكر، والشاعر شعبان يوسف، والنقّاد عبد الرحيم الكردي وحسين حمودة ومحمد الشحات، والمخرج محمد فاضل، والصحافي إيهاب الملاح. كما يُصدِر "المجلس الأعلى للثقافة" الجزء الثالث من أعماله الكاملة، إضافةً إلى نشر كتاب منفصل يضمّ أطروحته عن مسرح برنارد شو.