معرض "مسيحيو الشرق، 2000 عام من التاريخ" يشهد إقبالاً مميزاً ونوعياً في باريس، وهو ما تتحدث عنه المفوضة العلمية للمعرض الباحثة رافاييل زيادة لـ"العربي الجديد".
حظي معرض "مسيحيو الشرق، 2000 عام من التاريخ" في "معهد العالم العربي" في باريس، الذي يمتد حتى 17 يناير/ كانون الثاني 2018، قبل أن يتواصل عرضه في متحف الفنون الجملية بمدينة توركوان، في شمال فرنسا، بصدى كبير في وسائل الإعلام الفرنسية والعربية وغيرها. ومع افتتاحه الثلاثاء الماضي في حضور الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون كسب المعرض بعداً آخر وصدى أكبر، من خلال تأكيد ماكرون إلى جانب الرئيس اللبناني ميشال عون على أنّ فرنسا "ستواصل وقوفها إلى جانب مسيحيي الشرق، هذه الأقلية المستهدفة في العديد من بلدان الشرق الأوسط، خصوصاً عبر تنظيم داعش". ومنعاً لأيّ التباس في موقفه شدد ماكرون على أنّ "الدفاع عن مسيحيي الشرق لا يعني الدفاع عن بشار الأسد. فالدفاع عن مسيحيي الشرق، هو أن نكون في مستوى ما تفرضه الضرورة التاريخية".
إلى جانب السياسة، يمثل المعرض فرصة لتتبع تاريخ هذه الديانة التوحيدية ورصد حياة وتعبّد المسيحيين طوال ألفي عام، وفي هذا الإطار، تحدثت "العربي الجديد" إلى الباحثة الفرنسية رافاييل زيادة، المفوضة العلمية للمعرض ومسؤولة قسم الفنون البيزنطية في متحف "القصر الصغير" الباريسي. تقول: "هذا المعرض مشروع تمنيت من أعماقي أن يتحقق منذ فترة طويلة، باعتباري متخصصة في المسيحية الشرقية، ولم يحدث من قبل أن جرى توليف حول مسيحيي العالم العربي".
تضيف زيادة، وهي من أب لبناني وأم فرنسية: "كان معهد العالم العربي بباريس مهتمّاً بهذا المشروع، فقرر إنجازه، ولا شك أنّ الوضع الحالي للمسيحيين العرب الذين يعانون في بعض البلدان، كان حافزاً في القرار النهائي. ويمكن أن يقول المراقب إنّ الواقع الراهن سلّط الضوء على الوضع السيئ الذي لطالما عرفته هذه الأقليات".
أيقونات شرقيّة في المعرض (العربي الجديد) |
كيف يمكن تناول ألفي سنة من التاريخ في معرض واحد، مهما كانت أهميته وغناه؟ هذا سؤال كثيرين. تجيب زيادة: "نعم كان رهاناً، لكنّي أعتقد أنّه كان، من المهم، في نفس الوقت، إظهار فكرة أنّ هؤلاء المسيحيين يعودون إلى أصول المسيحية ذاتها، لأنّ السيد المسيح ولد في فلسطين وحياته جرت في هذه المنطقة، والحواريين الأوائل انطلقوا من هذه المنطقة، وسورية ولبنان ومصر تمسّحت، بشكل قوي، في القرون الأولى. الفكرة الأولى، إذاً، تسعى إلى التأكيد على أنّ المسيحية أصلية في هذه المنطقة. والفكرة الثانية السؤال عن المصير/ الصيرورة للمسيحيين في العالم العربي".
يلاحظ زائر المعرض رغبة في استعادة الأيام الأولى للسيد المسيح وبالتالي المسيحية، فهل نجح هذا التحدي؟ تجيب الباحثة: "تاريخ المسيح هو ثلاثون سنة من عمر المسيح نطلق عليها التاريخ المسيحي. التبشير قام به أتباعه ومريدوه المباشرون. جرى التبشير في البداية في المعابد اليهودية في المنطقة، في أنطاكيا بسورية وبين الجماعة اليهودية في العراق، التي استوطنت المنطقة قبل زمن بعيد. ثم عبر البحر الأبيض المتوسط حتى وصل إلى روما وأفريقيا الشمالية". لكن كيف يمكن للمعرض أن يشفي غليلنا، باحثين وزائرين عاديين، في الوصول إلى الآثار الأولى للمسيحية؟ المعرض يكشف لنا آثاراً قديمة جداً للمسيحية متمثلة في جداريات "دورا - أوروبوس" في سورية، على ضفاف نهر الفرات، وهي منطقة دير الزور، حالياً، والتي ما زالت تشهد معارك ضد تنظيم "داعش" وهذه الجداريات الشرقية القديمة تحافظ عليها، في الوقت الراهن، جامعة "يال" في الولايات المتحدة الأميركية. عن ذلك تقول زيادة: "تُعرَض اثنتان منها في هذا المعرض، وتعودان إلى سنة 232 للميلاد. وفي هذه الجداريات تمثيلٌ لحياة السيد المسيح، بالإضافة إلى أنّ معرضنا، هذا، يعرض وثائق أركيولوجية، وأناجيل منمنمة، الأقدم منها باللغتين الإغريقية والسريانية، وتعود إلى القرنين الخامس والسادس. لكن، ما نعرفه هو أنّه انطلاقاً من القرن الرابع الميلادي، الإمبراطور قسطنطين (306- 337) الذي سيطر على هذه المنطقة، التي هي الإمبراطورية الرومانية الشرقية، ساعَد على تشييد كنائس كثيرة، خصوصاً في القدس، حيث شيّد معبد على قبر السيد المسيح، والذي نطلق عليه الآن، كنيسة القيامة".
نسخة أصليّة تُعرَض في باريس (العربي الجديد) |
وحول ندرة الاكتشافات التي يعلن عنها في خصوص الأيام والسنوات الأولى لظهور المسيحية، قياساً مع الكشوفات الهائلة التي تسفر عنها حفريات العصور الفرعونية الموغلة في القدم، والتي تعرضها متاحف كثيرة منها "معهد العالم العربي بباريس" بكثير من الفخر والاعتزاز، تقول زيادة، التي ينتظر كثيرون صدور كتابها الجديد: "الأيقونات والفنون المسيحية الشرقية في القصر الصغير": "لا ينبغي إغفال أنّ الجماعات المسيحية الأولى كانت جماعات قليلة مقارَنة مع ديانات أخرى تقليدية، أغلبها وثني، وشيئاً فشيئاً بدأ أتباع الديانة المسيحية التوحيدية في التزايد. ثم لا ينبغي نسيان الاضطهاد الديني الذي تعرَّض له المسيحيون في بداياتهم، في الإمبراطورية الرومانية".
تتابع زيادة أنّ هذا المعرض "يثير فضول جمهور مختلف ومتنوع، فهو يضمّ في الوقت نفسه كنوز متحف، وأفلاماً، ومداخلات فنانين معاصرين من العالم العربي يتحدثون عن محكياتهم، وقضايا المنفى والذاكرة، وكيف يمكن للمرء أن يكون مسيحياً وعربياً، لأنّه في غالب الأحيان يتعلق الأمر، بسكان واجههم سؤال محرق: هل يجب البقاء، أم الرحيل؟ ونحن نعرف هذا من خلال اللبنانيين في بدايات القرن العشرين، الذين عرفوا هجرات كبيرة لأسباب اقتصادية".
تعي الباحثة بشكل حادّ إمكانية تسلل الراهن السياسيّ إلى معرض ثقافي وفني وتاريخي، لكنّها تفسر الأمر بـ"جزء من المعرض يحيل إلى الوضع الراهن، لكن ليس بصيغة صحافية، فنحن لا نعالج الوضع، بصفة يومية، بل نقدّم صوراً حديثة، مثلاً عن الشبيبة المسيحية في حلب سنة 2016، وعن ميليشيات مسيحية في العراق تدافع عن بلداتها ضد تنظيم داعش الإرهابي. هي صور أخذت قبل فترة قصيرة".