(1)
أمسكني النسيان في هذا السفر إلى جمهورية التشيك. حالة غريبة من فراغ الذاكرة. لو أسقطتَ شيئاً بداخلي سيقع على الرصيف. النسيان أمسكني منذ بداية رحلتي حتى نهايتها؛ فقد نسيتُ موعد السفر، وهذا أمر لم يحدث من قبل في تواريخ سفري المتكرر، وعند عودتي من براغ نسيتُ بعض ثيابي في الفندق، ونسيتُ المذكرة التي دوّنتُ فيها رحلتي، كأنّ قوة غريبة تريد أن تمسح صور رحلة التشيك من ذاكرتي.
كل ذلك حصل بترتيب عجيب غير مفهوم، كأنّها رسالة تلك البلاد: النسيان. أمسكني النسيان من كلّ جانب، ومع ذلك، لم أنسَ وسادة صغيرة أحرصُ عليها في رحلتي. إنها وسادة وضعَتْها مضيفة الطائرة بين يديّ بحنان، في رحلة سابقة لعالم آخر، وحين نزلتُ من الطائرة حملتُها معي كما لا يفعل أغلب المسافرين.
ثم بدأتُ أصحبها في رحلاتي الطويلة بالحافلة والقطار والطائرة. وسادة صغيرة تُسلّمها لك بعض شركات الطيران خلال الرحلات، وعندما تنزل من الطائرة تتركها، غالباً، على المقعد، لأنها من مخلّفات الرحلة، فتموت ذكراها. لكنني لم أترك الوسادة تنتهي مع انتهاء مهمتها، لقد أحييتُها بحرصي عليها.
كان من الممكن أن تموت الوسادة بعد استعمال واحد مثل كلّ الأدوات الاستهلاكية التي نستعملها ونرميها: مثل الجوارب الخفيفة وإناء الوجبة العابرة وشوكة البلاستيك. فالذين وضعوا الوسادة رهن إشارتنا يريدونها بلا ذاكرة، يريدونها للنوم مرة واحدة، لرحلة واحدة، وليس للحياة، وبعدها ننساها، لكنني حملتها في أكثر من سفر كأنها ذاكرة سفري التي تعوّضني وتجبر ثقب ذاكرتي.
تلك الوسادة الصغيرة الوردية، وبعد استعمالها لوقت، أحببتها وأصبحت صديقتي، لونها وردي، كأنني أُخزّن فيها أحلاماً وأفكاراً. أضعها تحت عنقي ترتّبه، أتكئ عليها في القطار باتجاه المطار، في صباحات باكرة جداً أحسّ برطوبتها عند عنقي وفي الحافلات التي تنقلني إلى جنوب البلاد لأزور أمي أنام عليها.
النوم أخ الموت، والوسادة أخت الحياة. هكذا صرت بالوسادة أنقل منامي بين الغيوم، وأقلّبها صفحة صفحة، أنقل منام الأحلام إلى تخوم المنعرجات فيختلط الحلم الوردي بالكابوس. أجدني بين عوالم متضامة، متداخلة. وفي رحلة براغ، وضعتها على دماغي في الطائرة، ونمتُ..
كما هو شائع، على الوسادة نعيش ثلث أعمارنا، وفي فيلم "الوسادة الخالية" كلام كثير عن الحبّ والهجر والخوف والرجاء. وفي أفلام عديدة وحكايات عديدة تلعب الوسادة أدواراً لا تُنسى.
فالحبيبُ يرى حبيبه الغائب على الدوام مرسوماً في الوسادة، وفي الثقافة الشعبية يتحدّث الناس عن حلاوة حديث الوسادة، حيث يتجاور الحبيبان في العتمة ليتوحّدا بكلامهما اللطيف الذي يُسكر. أما أنا فكانت وسادتي عامرة بالأحلام والآمال ورؤى السفر. وسادة ظفرتُ بها فدخلت براغ حالماً بالماء والوجوه النضرة والمغامرات التي لا تنتهي.
(2)
النوم أخ الموت، والموت أول اكتشاف لي في براغ، حالما وضعتُ حقائبي نزلت لأتجول. براغ مدينة صغيرة يسهل امتلاكها؛ وهْمُ امتلاكها على الخصوص. فبعد خطوات من الفندق، وجدتُ نفسي أمام المتحف الوطني، القريب من ساحة "فاسلاف" الشهيرة، حيث يقف ملك قديم على فرسه ويلتقط المارة صوراً في الساحة وعلى جنباتها مع تماثيل تذكّرهم بالتاريخ القديم. حصلتُ على تذكرة المتحف ودخلت لأتجوّل في الفضاء الجديد. كان المتحف الوطني، وللمصادفة، قد اختار ثيمة الموت خلال فترة زيارتي...
منذ الخطوة الأولى، غمرتني رائحة الموت المنتشرة في كلّ مكان. صور الجثث والتوابيت والعظام. جثت الحيوانات المحنطة والحشرات التي لم يعد لها وجود على الأرض. أين ذهب كل هذا الوجود؟ أين اختفى الماضي الذي أصبح في متحف؟ شاهدتُ كيف كانت علاقة الإنسان مع الموت في كلّ مفاصل التاريخ.
عالم رهيب من البياض والسواد. أسباب الموت وصنوف القتل والتعذيب. رسوم وصور. حشرجات الاحتضار المصوّرة والمسموعة عبر دهاليز متداخلة. حرِص المتحف على أن تكون الأجواء حزينة ومرعبة. وفي غرفة خاصة، وضعوا شاشة عليها شريط لرجل مقبل على الموت، ربما كان فناناً أو شاعراً. لم أفهم ما يقول. رأيته مسجّى على السرير وكانت له شهية الكلام بقوة.
بجنبه امرأة شابة، فهمت أنّها صديقته أو رفيقته من خلال اهتمامها به. كان حوارها مع ميّت، مع جثة تُحشرج بصوت واهن سينطفئ بعد قليل. كان الرجل يتكلم وفي حديثه استغاثة ورغبة في الحياة لن يُحققها لأن وقته قد انتهى. تكلم كثيراً بشهوة الذي يقول كلماته الأخيرة، ثم رأيت لحظة أسبل عينيه وانطفأ.
جلستُ على كرسي قريب ورأيت لحظته الأخيرة. ثم يعود الشريط إلى البداية ليتجدد موته، وتتجدد المأساة فيه كلّ لحظة. هل كان يحكي تاريخ حياته؟ نجاحاته؟ إخفاقاته؟ كان يتحدث عن أمور كثيرة، باللغة التشيكية، من دون ترجمة، ورأيت دعة الإنسان وضعفه وقلة فهمه أمام شراسة الموت.
الموت عدو لا يواجهك، بل يتسلل إليك من الأظافر ومن العيون ومن بسمتك أيضاً، فتختلط بسمة الموت ببسمة الهالك وتصنع خليطاً مرعباً يظهر في عين الإنسان وبين أسنانه. عيناه ضيقتان وواهنتان وفيهما تساؤل وحيرة، فيهما سؤال الوجود الذي لن يستطيع الجواب عنه، وحتى إذا عرف الأجوبة لن يعود ليفشي الأسرار.
كان يتحدث كأنّ صوته قادم من برزخ عالم آخر. وبقيت أشاهد الشريط المعاد إلى ما لا نهاية، ونسيت نفسي في متحف الموت، حتى تجلى الموت في بصري ونظري وأحسستُه قريباً مني؛ كريهاً، مقرفاً، مفاجئاً، أو غير مفاجئ، غدّاراً يريد بك شرّ الأفعال. عندما خرجت، صفعني برد الليل القارس وتغيّر الشارع أمام بصري، وتهتُ وسط الدروب أبحث عن مكان أتناول فيه طعامي.
كان إحساسي بالاختناق يتزايد وأنا أستعيد شريط الموت الذي دمّر فرحي وشهوتي للتجوال في مدينة براغ. وقد بقي إحساسي يتراوح ومشاعري متناقضة، لم ينقذني منها غير كؤوس عابرة.
لكن الموت في المتحف والحياة في الخارج. أتعجب كيف تخلّق هذا التناقض في براغ أمام بصري. فبعد أن هدأتُ، رأيت الحياة في الشوارع والحانات والمطاعم والساحات. حضور وفير وارف للحياة والسعادة المعلنة والبحث عن المتعة. بشر كثيرون من المقبلين على الحياة يشترون ويبيعون ويرقصون ويعقدون صفقاتهم السرّية والعلنية، لاهين عن الموت في الداخل.
قلتُ لنفسي: الرجل يموت ويُسبل عينيه أمام شاشة ولا من يفكّر في أمره. أمضيت المساء أتمشى في الشوارع مغامراً بالتيه وسط دروب المدينة القديمة بكنائسها وبناياتها من دون وجهة محددة. تسكنني فقط هذه المقارنة بين الموت في الداخل والحياة في الخارج. عندما كتبت لصديقتي رسالة مليئة بالأسى. صمتت للحظة وقالت:
-إنها استعارة مناسبة، الموت في المتحف والحياة في الخارج. لقد تجاوز الناس الموت ووضعوه في المتحف ليتحنّط، وخرجوا للاحتفاء بالحياة. أما نحن فنحتفي بالموت في كلّ مكان ونجعله رفيقنا. إنه في الدار والمسجد والتلفزيون وفي حياتنا اليومية. موت حقيقي ومستعار أيضاً.
تعشيت بالبيتزا وشربت كأسين، لكن المقارنة لم تمت.
(3)
حين بلغتُ براغ، قلت لنفسي بعد جولة قصيرة إنّ المدن لا تُعيننا على اكتشاف دروبها، بل، أساساً، على اكتشاف أنفسنا. أمام الكنيسة الكبرى أقف لأتابع زفافاً تقليدياً. أتأمل سلوك الناس وأناقة اللباس ولعب الأطفال وانضباطهم، وأقارن ذلك كلّه بما يقع عندنا.
لكلّ بلد ثقافته وعوالمه، وكل شيء نسبي. عالم من البياض والورود وهدوء العروسين في ليلتهما الخالدة. لأول مرة أرى زفافاً تقليدياً في أوروبا. أمضي في الطريق بين المباني التي يغطيها الضباب والسخام، وأصوّر المباني التي لا تبذل مجهوداً لكي تكون جميلة.
عالم قديم مايزال واقفا على قدميه. لو تركتَ كاميرا حرة في الأزقة والشوارع تدور لأبدعت وحدها وصورت الأفلام المطلوبة. هناك ديكور في كلّ مكان. ديكور لا نحتاج جهداً لصناعته. ديكور مفتوح على التاريخ والهدوء والدّعة.
يحاول الصديق أن يشرح لي تاريخ التشيك فيقول إنها تنقسم إلى ثلاث مناطق، ومن أكلاتها الجميلة التي أكلناها تباعاً نتعرف هذه المناطق. نتجول لنشاهد الأبراج والمعالم في مدينة عرفتْ كيف تحافظ على نظافتها وتعبر من عاصفة الحروب بلا ألم كبير. برج في كل مكان ننقاد إليه. كاتدرائيات وقلاع وحصون؛ تاريخ ملوك "بوهيميا" ينسكب كماء ذهبي بين الأزقة، فكأنك تعيش في فيلم تاريخي لا يوقظك منه سوى موسيقى الشارع التي تنتشر بين شباب يتعيّشون من غيتار وحب وأغنية عابرة. يأكلون من حلمك بالتيه بلا رقيب ولا التزام ولا انتظار يهشّم لحظة الحب والسعادة.
في المحلات والمقاهي والبارات لوحات وأيقونات. هناك أصوات وفنون لا تحتاج إلى الصوت العالي لتكون قوية، خصوصاً إذا كان الصوت نابعاً من صورة على الجدار؛ جسد بلا رأس. لوحة تطلّ على طاولتي وأنا أتعشى؛ رأس مقطوع يسكب مادة سائلة في رأس مفتوح. الرأس يسكب ماءه في الرأس.
لوحة تغريك وترميك إلى لوحة؛ لوحتان مزدوجتان متآخيتان في واحدة: روح واحد في جسدين. الفن يغيّر النفوس، وأنتَ سكران بالفنون الجميلة والدعة والطمأنينة التي أخذتكَ بعد أن تخلّصتَ من جحيم متحف الموت. الموت عندك أخضر، وما كان عليك أن تنقاد إليه وأنت بلا حصانة حبّ أو نّصّ. تجول في الشوارع وتتملّى خلق الله وتحاول أن تملأ البصر بالصور لكي تتغدى.
قال لي صديقي، الذي دعاني إلى الزفاف، إنه غير مؤمن. وقالت زوجته إنها ببساطة لا تهتم. لا أدري ما الذي قادنا إلى نقاش الإيمان. ربما حضورنا في الكنيسة لهذا الزفاف، وربما حديثي معهم عن الموت في المتحف. وعكس ما يكون الحال عليه في بلداننا من اهتمام لصيق بسؤال الدين، يكون الدين في أوروبا خفيفاً ويسيرُ ببطء، ولا يكون نقاشه مدعاة لأي تطرف أو تعصب أو فرض رأي.
أفتح صفحتي على فيسبوك وأطالع النقاشات الساخنة والمواعظ والصور المخيفة التي تدعو إلى الإيمان قسراً مع التهديد بالنار والدعوة إلى إعمال النقل بدل العقل. لا تقرأ في الإنترنت غير الحديث عن يوم الرحيل والعذاب وتقييد الحريات المرتبط بالدين، وهذا كله جيّد للأنظمة الاستبدادية والشمولية التي تملأ الوطن العربي؛ إنها تعتاش من الخوف وتأجيل الحياة حتى إشعار آخر.
أما في هذا البلد، فللجميع الحق في اختيار معتقداتهم وآرائهم من دون تدخّل. هل فقد الناس عندنا بوصلة الحياة ولم يعد يهمهم غير الموت؟ هل فقدوا رابط الحياة؟ يبدو هذا مفهوماً بالنسبة لقلة إمكانات الحياة في بلدان يسيطر عليها الجهل والفقر وقلة الحيلة. هل فقد الإيمان مصداقيته حتى أصبح يتوسّل بالخوف في بلداننا؟ ألا ينبغي على الإيمان أن يرتبط بالحب أكثر؟
فكرت في أنّ هناك نقطة التقاء في الوجود، يتساوى فيها المؤمن مع غير المؤمن هي الإنسان، كلاهما في رعاية الله، وهذا الصديق الذي يقبّل حبيبته الآن في هذه اللحظة، وعلى الرغم من إلحاده أجده أقربَ لي من أي مؤمن متطرف يريد أن يفرض مواقفه. ومع موسيقى الكنيسة ووعود العروسين وقُبل الحب، تذكّرت طقوس العرس في قرى الجنوب المغربي، ثمة شبَه خفيف بين العالمين، فدعة البوادي في الجنوب تجعل من لحظة العرس أكثر وداعة وألقاً، لأن القبيلة تستدعي أزمنة الصفاء، عكس أعراس المدن التي يكثر فيها الزيف والنفاق والمصالح والتباهي.
في حالات الغنى يكثر التنابز بين أهل العروسين، وفي حالات الفقر يكون على الأسر أن تقيم خيمة في السطح أو في الشارع وتغلق نصفه مع حراس شداد مستعدين للخصام مع المتطفلين. ينتهي العرس ونمضي في شارع مضبّب ولا تنتهي المقارنات في ذهني.
* روائي مغربي