حفرت الحرب الدائرة في سورية، ولا تزال، جراحاً عميقة في وجدان السوريين، كما في حياتهم ومصاعبها الكثيرة بشكل عام. فالقصة لا تنتهي عند الحرب وويلاتها، من قتل ودمار وتهجير قسري للمواطنين، وحياة السوريين في الداخل اليوم تكاد لا تطاق، لأسباب منها صعوبة تحمّل تكاليف العيش ونقص فرص العمل وتدني مستوى دخل الفرد، وارتفاع الأسعار بسبب فقدان الليرة السورية قيمتها أمام العملات الأخرى، بالإضافة إلى التدهور المتسارع للاقتصاد السوري.
وبسبب الحرب، ووسط هذه الأوضاع الاقتصادية المتردية، فقدَ الكثير من السوريين مصدر رزقهم الوحيد، وبدؤوا بالبحث عن مصدر رزق آخر، أو اضطر بعضهم إلى ترك عمله السابق، ليبحث عن عمل مختلف، لم يمارسه من قبل، بل ربما لم يخطر بباله من قبل أن يعمل به.
خالد السعيد، (45 عاماً) من ريف إدلب، ومالك مصنع للألبان والأجبان متوقف عن العمل الآن، يقول: "أنشأت المعمل منذ خمسة عشر عاماً، وكان العمل يجري بشكل جيد، إذ كنت أبيع منتجاتي لجميع البلدات والقرى في محافظة إدلب، بالإضافة إلى ريفي حماة وحلب".
وبحسب السعيد، كان يعمل لديه أكثر من 20 عاملاً وعاملة على آلالات حديثة، تساهم في رفع معدل الإنتاج وتحسين جودته، بالإضافة إلى توفير منفذ لأصحاب المواشي لبيع منتجات مواشيهم من الحليب، الذي يعتمد عليه المعمل في إنتاج سلعه المختلفة.
بعد توقف مصنعه عن العمل، يعمل السعيد الآن في بيع الخضروات، إذ افتتح محلاً لأجل ذلك ويقول: "كثيراً ما حاولت سابقاً أن أستمر بالعمل في المصنع، ولكن غلاء المحروقات وانقطاع الكهرباء لفترات طويلة، بالإضافة إلى انعدام الأمن على الطرقات، جعلت إنتاج المعمل يتراجع كثيراً ويكسد، وقد سبب لي ذلك خسارة كبيرة، مما اضطرني للبحث عن مهنة أخرى".
ويشكل معمل السعيد واحداً من مئات المعامل السورية التي توقفت عن الإنتاج بسبب الظروف الراهنة، كمعامل منطقة الشيخ نجار في حلب، التي تشهد هذه الأيام اشتباكات عنيفة بين قوات النظام من جهة، وكتائب الجيش الحر من جهة أخرى، حيث خرجت هذه المعامل عن الخدمة في معظمها، ومنها ما تم تدميره بفعل عمليات القصف.
ويقول ناشطون إن "أكثر من تسعين بالمئة من معامل المدينة الصناعية في حلب، لا تعمل الآن، وبعضها نقل أصحابها الآلات الموجودة فيها، بينما تعرض البعض الآخر للسرقة". وبالنسبة للمعامل التي دمرت يقول ناشطون إن "أكثر من عشرين بالمئة من مدينة الشيخ نجار الصناعية دمرت بفعل عمليات القصف اليومي لقوات النظام، منها بشكل كلي، وبعضها بشكل جزئي".
وتعتمد نسبة كبيرة من السوريين في دخلهم على الوظيفة الحكومية التي لم تعد تكفي سوى لأيام قليلة.
تقول نجاة (40 عاماً)، والتي كانت تعمل معلمة في ريف الرقة، والمتزوجة بمعلم مدرسة أيضاً، وأمً لثلاثة أولاد: "كان دخلنا الشهري أنا وزوجي نحو 35 ألف ليرة سورية، أي ما يعادل 650 دولاراً قبل بدء الثورة، أما الآن ورغم زيادة الرواتب والأجور، فدخلنا لا يعادل 200 دولار أميركي".
بالإضافة إلى عملها، بدأت نجاة بالعمل خياطة نسائية في منزلها منذ نصف عام، فالظروف الصعبة التي تمر بها البلاد، كما تقول، "انعكست على كافة المواطنين، بالإضافة إلى أن مهنة الخياطة تعطي دخلاً لا بأس به وتلبي احتياجات العائلة وتقي من العوز".
وتوضح نجاة، أنه بسبب "فقدان العملة السورية لقيمتها، أصبح دخلنا لا يكفي إلا أياماً قليلة لا تتجاوز عشرة أيام، هذا في حال وصل الراتب في موعده. ففي معظم الأحيان لا يصل راتب الموظف في موعده المحدد، وقد ينقطع لأشهر عديدة، حيث لا يرسل النظام رواتب الموظفين في المناطق الخاضعة لسيطرة الجيش الحر، مما يجعل الموظفين يذهبون إلى مناطق سيطرته، وربما إلى محافظات أخرى، كما يحدث في محافظة الرقة، التي تقع تحت سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام "داعش"، حيث يذهب الموظفون إلى محافظة دير الزور المجاورة لاستلام رواتبهم، إذ ما زال النظام يسيطر على أجزاء من المحافظة". وتضيف: "لست وحدي في الأسرة من يعمل عملاً آخر، أيضاً زوجي الذي يعمل مدرّساً، يبيع اليوم المحروقات في الشارع لنكفي أطفالنا".
ويعمل كثير من السوريين في بيع المحروقات، بعد خروج مناطق واسعة عن سيطرة النظام، لتدبير أمور عيشهم، فالسلعة التي يتاجرون بها مطلوبة بشكل مستمر.
محمد (37 عاماً)، كان شريكاً في أحد محلات صياغة الذهب في مدينة حلب. كان دوره نقل الذهب من محله الواقع في سوق الصاغة بالمدينة القديمة إلى المحافظات السورية الأخرى أو بالعكس. ويعمل محمد الآن سائق سيارة أجرة، وذلك بعد أن دمّر محله في (سوق المدينة)، كما يسميه الحلبيون.
ويقول محمد: "منذ أن بدأت أوضاع البلاد بالتدهور، لم يعد العمل كسابق عهده، وأصبح الأمر يخيف شريكي الذي يملك رأس المال، حيث يتطلب عملنا نقل كميات لا بأس بها من الذهب إلى محافظات أخرى أو جلبها، وهو ما قد يعرضنا للسرقة، لذلك توقفنا عن العمل وسحب الشريك ماله، ما جعلني عاطلاً عن العمل".
وقد ساعدت بعض مدخرات محمد على شراء "تاكسي" في مدينة حلب، وأصبح عمله الآن سائقاً، لكنه بالكاد يستطيع من خلال عمله الجديد أن يطعم عائلته المكونة من زوجته وثلاثة أطفال.
كثيرة هي الأعمال والمهن في مدينة حلب، التي تركها أصحابها بسبب الحرب الدائرة هناك منذ منتصف الشهر السابع من العام 2012. فالمدينة التي كانت عاصمة سورية الاقتصادية، تعاني اليوم من تدمير البنية التحتية للصناعة، فمعظم الورشات الصغيرة والكبيرة والمعامل، هجرها أصحابها بسبب المعارك.
ولم يعد افتتاح مشروعات استراتيجية ضخمة، تؤمن فرص عمل كثيرة للسوريين ممكناً، بسبب الأوضاع الأمنية، بالإضافة إلى هجرة رؤوس الأموال إلى الخارج، والتي كان لتركيا النصيب الأكبر منها، حيث إن معظم صنّاع حلب وتجّارها، اتجهوا إلى تركيا وأسّسوا هناك أعمالاً جديدة.