بين ديوانه الأول "الظل الأخضر" وآخر كتاب له في حياته، أمضى الشاعر الراحل ممدوح عدوان رحلة طويلة دامت قرابة خمسة عقود، عمدها بعشرات الكتب في الشعر والمسرح والرواية والمقال والترجمة (من بينها ترجمته لإلياذة هوميروس) وكتابة المسلسلات التلفزيونية، وليس في جيله من كان مثله في نشاطه الثقافي وغزارة إنتاجه، بل إن الكثيرين ممن كانوا يتابعون أعماله المتنوعة، كانوا يحارون لا في كثافة نتاج الشاعر وحسب، بل في احتفاله الصاخب بالحياة أيضاً.
وفيما كان عالم القمع وتجلياته في الوضع البشري يشغل معظم نتاج الشاعر، فإن الأمر الأهم الذي روعه من هذا القمع إنما كان تلك الممارسات التي تعامل الإنسان على أنه حيوان. وإذا كان قد كتب من قبل في كتابه "دفاعاً عن الجنون" إن الإنسان "يجهد لمنع نفسه من الانحدار عن مستواه الإنساني إلى مستوى الحيوان"، فقد بدا له في ما بعد أن البشر في عصرنا لم يفوا بهذا الجهد وحسب، بل كانوا يزدادون عطباً، وخراباً. وهو الشاهد والرائي أن سلسلة الجرائم التي يرتكبها الإنسان بحق إنسان آخر آخذة في التوسّع والامتداد في طول الأرض وعرضها.
ولو كنا نلقي نظرة على قصائده، التي اتخذت سمة التأبين لهذا العالم، في زمن آخر غير هذا الزمان، مثل "تأبين صباحي" أو "زمن الجنازات الجميلة" أو "الإعدام" أو "موت الورود"؛ فقد كان من الممكن أن نلقي اللوم على اللوحة المثقلة بهذه العتمة المريعة التي تخيم على العالم، أو نعاتب الشاعر على كثرة أحجار القبور في قصائده، غير أننا لا مناص من أن نقر له الآن بعد رحيله، أنه إنما كان يحاول أن يقدم لنا خلاصة عرافٍ رأى "الطغيان، والقضبان، والأكفان، والهزائم" تعمّ عالمنا، أو رأى "صيارفة الأوطان، والنخاسين" قد حولوا الإنسانية إلى "تاريخ حزن"، وأنه إنما كان يحاول أن يوقظ فينا حذر الكائن البشري من التحولات المريعة التي تطال إنسانيتنا في جوهرها.
ثم بدا كأن الشعر لم يكفه، لا في العرافة، ولا في التعريف بعالمنا الذي لم يعد "يصلح للإنسان.. بل هو يعمل على حيونته"، فألف كتابه الأخير "حيونة الإنسان" وفيه يكاد يعتذر من الوحوش لأنه يسمي البشر كذلك: "إن اللغة تبدو فقيرة. وحين نضطر لاستخدام كلمة "وحش" و"وحشي" و"متوحش" فإننا نتواطأ مع جنسنا البشري لكي نظلم الوحوش. فالوحوش لا تقتل من أجل الابتهاج والرضى فقط، والوحوش لا تبني معسكرات اعتقال أو غرف غاز، ولا تعذب الوحوش أبناء جنسها إلى أن تهلكهم ألماً".
يمكن اعتبار هذا الكتاب، سجلا للخزي "الإنساني" والتجاوزات التي يرتكبها البشر بعضهم ضد بعض. وفيه يتابع الشاعر ما يسميه بورطة الإنسان الأعزل في مواجهة التوحش، أو صناعة الوحش الإنساني كما يقول. كتاب حزين، على الرغم من الصور المرعبة التي يقدمها عن القمع، لشاعر كان يأمل ذات يوم في قصيدته "رحلة دون كيشوت الأخيرة" بأنهم: "إن كانوا نجحوا في تحويل الإنسان إلى حيوان/ فلماذا لا ننجح في إرجاع الحيوان إلى إنسان؟".