مع نهاية القرن الماضي، كان هناك جدل كبير حول الممثلة الأفضل في تاريخ السينما المصرية، انحصرت الخيارات بين ٣ أسماء: فاتن حمامة بأفلامها الخالدة، وسعاد حسني بتنوع اختياراتها ومسيرتها، وكان الاسم الثالث هو لفناية يفترض أنها ليست ممثلة من الأساس، ولكنها بَلغت من قوة الأداء وجودة الأفلام وقيمة المسيرة الطويلة ما جعل الجميع ينسى أنها –في الأصل ــ مطربة ويرشحها لتكون "سيدة الشاشة"، كانت شادية، التي رحلت عن عمر 86 عاماً، وتركت وراءها تاريخاً سينمائياً عظيماً لا ينسى، نتتبعه هنا ونحاول معرفة نقاط تحولاته.
من "الدلوعة" إلى "المرأة"
لوقت طويل في بداية مسيرتها السينمائية انحصر وجود "شادية" في دور الفتاة الصغيرة الخفيفة أو "الدلّوعة" كما أطلق عليها في تلك المرحلة. كانت خياراً مغرياً جداً لأي مخرج لفيلم تجاري (رومانسي أو كوميدي أو حتى ميلودرامي) في تلك المرحلة، فهي جميلة وصغيرة ولها حضور كوميدي لافت وصوت أخاذ ولذا درجت تسميتها بـ"شادية"، وخلال 12 عاماً تقريباً قدمت ما يقارب الـ70 فيلماً (بمتوسط 6 أفلام كل عام)، تؤدي فيها نفس الدور البسيط الذي لا يكتشف إمكاناتها الضخمة ويحصرها في إطار محدود جداً. وما تبقى من تلك الفترة في ذاكرة السينما في تلك الفترة كان قليلاً؛ كوميديا "الستات ميعرفوش يكدبوا" (1954) أمام إسماعيل ياسين، أو الوقوف أمام مطرب شاب اسمه عبد الحليم حافظ في أول أفلامه السينمائية "دليلة" (1956)... حضور محدود ينساه الناس ويرسخ حصرها في دور "الفتاة الرقيقة"، في مقابل ألق أخاذ لتحية كاريوكا كسيدة ناضجة ــ في فيلم "شباب امرأة" (1956)، أو اكتشاف يوسف شاهين لإمكاناتها الكوميدية الجبارة أمام فريد الأطرش في "انتَ حبيبي" (1957).
عند تلك المرحلة كانت شادية تكبر، تتجاوز جسدياً مرحلة "الفتاة"، وربما كان ذلك من حسن حظ السينما، فقد دفع المخرجين لاكتشافها في أدوار أخرى، والخروج على النمط الدائم، لتبدأ في أواخر الخمسينيات مسيرتها الحقيقية التي أبقتها حتى الآن. ومن اللافت أن الفيلم الأول الذي تَخرج فيه عن فكرة "الفتاة" كان يصفها في عنوانه بالمرأة، ففيلم "المرأة المجهولة" (1959) الذي أخرجه محمود ذو الفقار له فضل حقيقي في نَقلها لمساحات وأدوار أخرى، ورغم محدودية القيمة السينمائية للفيلم، واعتماده على ميلودراما زاعقة، إلا أن أداء شادية القوي في آخره لدور سيدة مُسنة تدهور بها الحال كان مؤثراً ولافتاً لكل المخرجين، ومهد لسنوات مجدها السينمائي التي انفصلت فيها عن كونها مُطربة ولم تعد تغني حتى في الأفلام لأن الأهم هو حضورها التمثيلي.
ستينيات النضوج والتنوع والتألق
مع الستينيات، بدأت المسيرة الفارقة والمؤثرة لشادية كممثلة عظيمة وليست فقط مطربة وفتاة جميلة، فبشكلٍ صادم اختارها المخرج كمال الشيخ لأداء دور "نور" بائعة الهوى في فيلم "اللص والكلاب" (1962) المقتبس عن رواية لنجيب محفوظ، وعلى قدر جرأة "الشيخ" في الاختيار، فهناك جرأة ووعي من شادية في المقابل لأن تصدم الجمهور الذي كان يراها حتى سنوات قليلة خلت "فتاة أحلام رقيقة" لكل الشباب، بدور يمثل كل ما هو عكس ذلك. وهو ما مهد لحضورين لافتين لاحقاً في أفلام مقتبسة عن أدب "محفوظ"، وبأدوار صادمة أيضاً؛ "زقاق المدق" (1963) الذي تجسد فيه دور حميدة الفتاة الفقيرة التي تستسلم لإغواء أحد القوادين لأنها تحلم بالثراء، و"الطريق" (1964) الذي تمثل فيه دور السيدة الناضجة والجانب الحسي في حياة البطل، كأنها انتقلت هنا لمساحة تحية كاريوكا في "شباب امرأة" وتركت دورها السابق كفتاة جميلة وقصة حب بسيطة لسعاد حسني التي كانت في بداية مسيرتها.
مع الموسيقار بليغ حمدي (العربي الجديد)
خلال الستينيات أيضاً كونت شادية شراكة استثنائية مع المخرج الكوميدي العظيم فطين عبد الوهاب، كان نتاجها 5 أفلام هي "الزوجة رقم 13" (1962)، "مراتي مدير عام" (1966)، "كرامة زوجتي" (1967)، "عفريت مراتي" (1967)، و"نصف ساعة جواز" (1969)، وأطلقت فيهم شادية العنان لنفسها للخروج (مرة أخرى) عن النمط، والتحول لممثلة كوميدية، ولا نجاح أكبر من كون تلك الأفلام الخمسة لازالت حتى الآن من أفضل الأعمال الكوميدية الباقية في ذاكرة السينما المصرية.
واختتمت "شادية" عقدها العظيم والمؤثر بفيلمين عام 1969 كلاهما يعتبر علامة: الأول هو "ميرامار" للمخرج كمال الشيخ، وهو التلاقي الأخير لها مع أدب نجيب محفوظ، و"شيء من الخوف" للمخرج حسين كمال، حيث ملحمة "عتريس وفؤادة" ذات البعد الرمزي عن السلطة والشعب، في واحد من أكثر ظهورات شادية أيقونية وأثراً، بأداء تمثيلي مذهل وصوت غنائي مَنح الفيلم المزيد من القيمة حين تَشدو بتهويدة "يا عيني عَ الولد".
سنوات الخفوت ثم الاعتزال
مع بداية السبعينيات، ووفاة جمال عبد الناصر التي أدت لسحب الدولة يدها من الإنتاج، والدخول في عصر اضمحلال السينما المصرية، لم تقدم شادية حتى اعتزالها في منتصف الثمانينيات سوى 10 أفلام فقط، آخرها "لا تسألني من أنا" (1984)، ولا يملك أي من الأفلام العشرة ولو جزءًا من القيمة والأثر الذي وصلت إليه أفلامها في الستينيات. وربما الشيء الباقي فعلاً في تلك السنين الأخيرة التي شهدت خفوتها مثلما كان خفوت السينما بشكل عام هو بطولتها لمسرحية "ريا وسكينة"، أمام سهير البابلي وعبد المنعم مدبولي، كأنها تترك أثراً أخيراً ودائماً مع الناس على خشبة المسرح، وتأكد أنها قادرة على فعل كل شيء في فن التمثيل، وبواحدة من أكثر المسرحيات شعبية بعد ذلك.
مع منتصف الثمانينيات، قررت شادية الاعتزال، وقالت ــ برقة بالغة ــ أنها "تحب أن يتذكر الناس صورتها القديمة الجميلة"، لذلك فمنذ ذلك الحين (وخلال أكثر من 30 عاماً) لم تظهر شادية على الشاشة، ولم تتحدث للصحف، ولم تقرر العودة إلى التلفزيون أو السينما كما قرر الكثيرون والكثيرات، ظلت قامة استثنائية ومطربة رائعة وممثلة عظيمة، حتى رحلت بهدوء وسَكينة، ولم يعد يبقى سوى التاريخ الطويل من الفن المتنوع الذي تركته.