ورغم تأدية نجم أدوارًا أخرى، أحدها في مسرحية "فيلم أميركي طويل" (1980)، للرحباني أيضًا، إلّا أن نجيب طاغٍ، ونبرة صوته حاضرة، وغضبه فاعل لغاية الآن. ومع أن عبد الأمير، الأستاذ الباحث عن المؤامرة (فيلم أميركي طويل)، يوغل في لاوعي لبناني، فردي وجماعي، إزاء حربٍ أهلية يُتَعامل معها كنتيجة لمؤامرات جمّة تُحاك ضد "البلد البريء" و"الشعب الطيّب"، إلا أن حساسية نجيب، وحبّه العفوي، وعصبيّته، وموقعه كشاهدٍ ـ داخل الـ"بار" الأشهر "ساندي سناك" ـ على مسارات ومصائر وحالات، تحتلّ المشهد برمّته، وتكاد تُغيِّب أدوارًا أخرى، لن تتمكّن يومًا من التقدّم على نجيب، وعالمه وأحاسيسه وحضوره.
وهذا، إنْ يتوافق مع مزاجٍ شعبي عام، يُخالِف وقائع يُفضِّل كثيرون التغاضي عنها، لسهولة التغاضي. وقائع تقول إنّ لنجم أدوارًا مسرحية وسينمائية متنوّعة، وإنّ اشتغاله التمثيلي منبثقٌ من رغبة فنيّة في تقديم شخصيات حيّة وحقيقية، يبدو أن رفيق نجم أحد أقدر الممثلين على تقديمها، لعفويته وسلاسة حضوره أمام الكاميرا أو على خشبة المسرح. نجيب أكثر شخصياته طغيانًا، وأعمقها تجذّرًا في الذاكرة، لبساطتها وصدقها وعفويتها، ولجمالية أدائه لها.
التنقيب في تاريخ المسرح والسينما في لبنان، في مرحلة الحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990)، يكشف قلّة أعمالٍ له، في مقابل الحجم الكبير الذي تحتلّه، بجدارة ومصداقية، شخصية نجيب. كأنّ براعة زياد الرحباني في ابتكار شخصياتٍ ـ تحافظ على نضارتها الشعبية والحقيقية والانفعالية، وتكشف خواء بلد واجتماع، وتمزّقات ناسهما وانكساراتهم وانشقاقاتهم وضياعهم، من دون تبرئة الشخصيات أو محاكمتها ـ تجد في شخصية نجيب إمكانية أن تكون عينًا تُراقِب وتصمت، وعندما تغضب تثور فتهاجم، ثم تهدأ فتقول قولاً سلسًا لكنه أعمق من كلّ تفسيرٍ أو سرد.
الأستاذ عبد الأمير يُدرك أن هناك مؤامرة، وأن مهمَّته تكمن في كشفها. مشفى اضطرابات نفسيّة يختزل بلدًا، يختزله "ساندي سناك" قبله. "الجنون" ـ الذي يُصيب أفرادًا يأتون إلى المشفى محمّلين بارتباكات ومخاوف وأحقادٍ ونزاعات ـ منبثقٌ من "جنون" بلدٍ يهوي، يوميًا، إلى قعرٍ غير منتهٍ. إزاء مناخٍ كهذا، يحاول عبد الأمير أن يكون بوصلة الحكاية، أو نواة الحبكة. يحاول أن يصنع من "وعيه" وقائع يُدركها وحده. يحاول أن يُعرّي المخبّأ فيذهب بعيدًا في هلوساتٍ ومتاهاتٍ، غير متناقضة وتلك التي يغيب فيها الآخرون، المُقيمون معه في المشفى نفسه. لكن هذا غير متمكّن من الظهور على خشبة المسرح لولا براعة زياد الرحباني في صُنع شخصياتٍ حقيقية، ولولا سحر خاصٍ برفيق نجم، يتمثّل بنبرةٍ أو حركةٍ أو صوتٍ أو كيفيةِ أداءٍ وقول.
بين نجيب وعبد الأمير، يحضر رفيق نجم (1952 ـ 2019). لكن حضوره مُعطَّل بخيبة وقهر وانكماش، مع نشوء سلم أهليّ هشّ وناقص في بلدٍ يترنّح تحت ضرباتٍ كثيرة ومختلفة، وهو سلم مؤذٍ، بدلاً من أن يُخرِج البلد وناسه من أنقاض الحرب إلى عمارةٍ تتلاءم وطبيعة البلد والحداثة والتراث والمستقبل والذاكرة.
قبل الاعتكاف شبه الكامل، يُشارك نجم في أعمال سينمائية، يبقى حضوره فيها أقلّ شعبية له من الأعمال نفسها أولاً، ومن شخصيتي نجيب وعبد الأمير ثانيًا. وهذا رغم تعاونه مع مارون بغدادي في "لبنان بلد العسل والبخور" (1988)، وبرهان علوية في "بيروت اللقاء" (1981)، وفولكر شلوندورف في "المزوّر" (1981)، قبل انتقاله إلى تجربة سينمائية لبنانية، تتّسم بمنطق تجاري بحت، خصوصًا مع سمير الغصيني، في "حسناء وعمالقة" و"نساء في خطر" و"المغامرون"، المُنجزة كلّها عام 1981، و"لعبة النساء" (1982).
مشاركة رفيق نجم في أفلامٍ لبنانية تجارية كهذه جزءٌ من اختباراتٍ يُجريها لنفسه. لعل الحاجة إلى عمل دافعٌ إلى قبوله أدوارًا تبقى دائمًا في المرتبة الثانية أو الثالثة في لائحة الممثلين، فهو غير متمكّن من التقدّم إلى أدوار البطولة، لرفضٍ منه ربما، أو لعدم وجود ما يُغري مخرجًا لمنحه دورًا أول. مع هذا، ينتمي رفيق نجم إلى نوع فني، يجعل ممثلي الأدوار الثانية أو الثالثة "أبطالاً" بفضل حضور أو حركة أو موقفٍ أو قولٍ، وهذا كلّه يرافق هؤلاء الممثلين في مساراتهم اللاحقة.
يرحل رفيق نجم في لحظةِ تخبّطٍ قاسٍ، تُعانيه بيروت التي لها في شخصياته المسرحية والسينمائية أكثر من حضورٍ وصورة. يرحل في لحظة ارتباكٍ حادّ، تعيشه المدينة وناسها، هو المتمكّن من التقاط نبض المدينة ذات زمن، ومن اختزال مواجع ناسها دائمًا.