رحيل ضافي الجمعاني.. تأمّل في معنى الهزيمة

05 ابريل 2020
(ضافي الجمعاني/ 1927 - 2020)
+ الخط -
يمثّل المناضل الأردني ضافي الجمعاني (1927 – 2020) الذي رحل أمس السبت في عمّان، شاهداً على حقبة ممتدّة، عاشها كأحد المنتمين إلى التيار القومي العروبي الذين عاصروا محطّات كبرى لا يزال اثرها حاضراً لليوم، وتعرّض إلى السجن من رفاقه قرابة ربع قرن، خرج منه ليتأمّل خساراته الشخصية التي لم تنفصل عن انكسارات الجماعة والأمة.

وقد ترك مذكرّاته التي دوّنها على امتداد أربعمئة صفحة في كتابه "من الحزب الى السجن (1948 – 1994)"، ولم يكتف يتوثيق سيرته كضابط في الجيش الأردني، وأحد المتهمين بمحاولة قلب نظام الحكّم عام 1957، واعتقاله خمس سنين لم تثنه عن مواصله نشاطه الحزبي البعثي معارضاً بعد الإفراج عنه، وقياداته "قوات الصاعقة" ضمن صفوف المقاومة الفلسطينية، مروراً بأحداث أيلول/ سبتمبر 1970، إنما أخضعها للمساءلة مبدياً ملاحظاته حولها زمن وقوعها، وخلاصات تفكيره بها لاحقاً.

تعكس كتابات الجمعاني قراءاته المعمّقة في الفكر والسياسة والثقافة، والتي برزت منذ كان طالباً في "مدرسة المطران" خلال ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، حيث حالت سوء أحوال أسرته المادية دون التحاقه بـ"الجامعة الأميركية"، حيث يشير إلى ورقة بحثية أعدّها أيام الدراسة حول جدلية التطور والثورة في العالم العربي منتصراً للمسار الأول، الذي أخضعه لاحقاً للمحاكمة بعد يقينه من إجهاض الأنظمة العربية لكلّ محاولة للنهضة بعد هزيمتها عام 1967.

ويتضح بشكل ملموس أن تلك الرؤية النقدية، والغاضبة أيضاً، لم تفارقه منذ البدايات كما يظهر في إبداء معارضته الصريحة وتشكّكه بكلّ ما يمسّ المبادئ أو الثوابت التي توافق مع رفاقه حولها، ويظهر في المقابل إقصائه في أكثر من مرة بسبب تلك المواقف التي لم يحتملها كثير من الرفاق، ويبدو أن قدرته على الاعتراف بالأخطاء ومحاولة فهم دوافع حدوثها وتداعياتها، مكنّته من خلق تصوّر واقعي حول الوقائع، ومنها اشتراكه في تنظيم الضباط الأحرار داخل الجيش الأردني.

لا يجامل الجمعاني جميع الشخصيات التي كانت جزءاً من التنظيم، كما فعل آخرون في مذكراتهم التي نُذرت حول المرحلة ذاتها، حيث يشير في أكثر موضع في الكتاب إلا عدم تحديد الهدف لدى التنظيم الذي ظلّ يتراوح بين إنهاء الوجود البريطاني داخل المؤسسة العسكرية والبلاد وبين تغيير نظام الحكم، موضحاً كيف أن تعريب الجيش لم يبدّل بنية الجيش التي لم تتحرّر من ولائها للبريطاني، لكنه يقرّ أن السؤال الحقيقي الذي عجز أعضاء التنظيم عن الإجابة عليه كان حول مصير الأردن ومن يحكمه لو قيّض لانقلابهم النجاح، ويعترف أيضاً أن إجابته الوحيدة حينها بضرورة إعادة الأردن إلى سورية كانت خاطئة، حيث لم يمتلك أحد حينها الوعي بضرورة بناء دولة مستقلة وديمقراطية.

بنى تحليله للواقع كمحصلة صراع اجتماعي وسياسي والتي لم يغيبّها في نقاشه لجميع الأحداث المحلية والإقليمية، إلا أنها لم تخف رؤية راديكالية لازمته حتى رحيله، معبّراً عنها على الدوام سواء في مناسبات اجتماعية أو سياسية، بثلاثة أركان أساسية: العدالة والديمقراطية وعدم التبعية للغرب، وظلّ يردد مقولاته بحماسة شديدة وإيمان منقطع النظير بحتمية التغيير.

يمكن إيجاز سيرة ضافي الجمعاني كما أوردها في كتابه، أو كما يعرفها كثيرون، بأنها سيرة شّكلتها جملة خسارات متتالية، لم تمنح صاحبها مكسباً سياسياً أو مادياً، إنما هي خسارة رجل حقيقي امتلك خياراته وأدرك معناها ومآلاتها، وذهب إليها بملء إرداته، ووعيه الذي لم يخنه يوماً، فاستحق عليهما المكانة والتقدير.

المساهمون