المسيح، ميكيافيللي، نيرون، شارل ديغول، روزا لكسمبورغ، يوليوس قيصر، موسيليني، نابليون، فيكتور هيغو؛ يصعب أن نجمع هذه الشخصيات في إطار مكاني أو زماني واحد، أو ضمن تيار فكري أو سياسي، غير أن لها رغم ذلك قاسماً مشتركاً؛ إنها جميعاً شخصيات رئيسية ظهرت في المدوّنة الضخمة التي تركها المؤرّخ الفرنسي ماكس غالو (1932 – 2017) الذي رحل عن عالمنا الأسبوع الماضي.
هذا التنوّع الكبير في تناول الشخصيات التاريخية يصبح معقولاً حين نعرف أن غالو نشر منذ بداية نشاطه التأليفي بمعدّل ما بين ثلاثة وأربعة كتب في السنة. غير أن ذلك ليس هو الأمر الوحيد اللافت وإنما أيضاً تنويعه في أشكال كتابة التاريخ؛ من الكتابة الأكاديمية الرصينة كما في خماسية "الحرب العالمية الثانية" و"تاريخ إسبانيا في عصر فرانكو"، إلى الكتابة التخييلية حيث كتب 27 عملاً روائياً ظهر أشهرها مسلسلاً كما في "الرومان" (خمسة أجزاء) أو "أزرق، أبيض، أحمر" (ثلاثة أجزاء).
غير أن السرد، سواء التوثيقي أو التخييلي، لم يكن الشكل التعبيري الوحيد لـ غالو، فقد كتب التاريخ، أو تأمّلاتٍ حوله، في أشكال أخرى مثل "نمط المحاولة" (essai) كما في "المافيا.. أسطورة وحقائق" أو "حب فرنسا مفسّراً إلى ابني"، وكذلك في شكل حوارات كما في عمله "تواريخ خاصة" (مع بول فرانسوا باولي)، ونشر كتابين تحت تصنيف "تخييل سياسي" هما "الخوف الكبير لـ 1989" (نشره في 1966) و"حرب العصابات في غولف سيتي" (1991).
ما يظلّ في ذهن قارئ غالو هو قدراته البيوغرافية. إنه لا ينتزع اهتمام القارئ من خلال البحث في أسرار الشخصية المدروسة أو الذهاب في تأويلات لتفاصيل حياتها اليومية، بل يغوص فيها من خلال إضاءة شديدة للعصر الذي عاشت فيه. البيوغرافيا مع صاحب "رواية الملوك" لم تكن أبداً قصة/ تاريخ الفرد، بل هي دائماً تتحدّث عن العالم برمّته.
وقد يصحّ القول إن تمرّس غالو بالشخصيات التاريخية بات يظهرها وكأنها ذات بنية موحّدة على اختلاف أزمنتها وأمزجتها ومصائرها، إذ سيجد القارئ تشابهاً بين ديغول وسبارتاكوس لم يفكّر فيه رغم معرفته بالشخصيّتين.
لم ينس كاتب البيوغرافيات الكثيرة نفسه، فقد خصّص كتاباً بعنوان "النسيان حيلة الشيطان" (2012) لسيرته الذاتية التي تذكّر القارئ بأنه لم يكن رجلاً منكباً فقط على كتابة التاريخ بل أيضاً له مساهماته في صناعته من خلال ما خاضه من معارك في السياسة والفكر وأيضاً مسايرة الحياة اليومية، مع الأسرة وفي العمل، ككل الناس.
لكن أي قارئ لـ غالو سيظل حاملاً لسؤال: ما سرّ هذا النهم الكبير للكتابة؟ لم يُطرح السؤال بشكل مباشر على المؤرّخ الفرنسي، غير أنه قال في إحدى كتاباته الصحافية (شكل آخر من أشكال كتابة التاريخ) "لديّ هاجس الزمن" مشيراً إلى بحثه الدائم عن نشوة الانتصار على التسويف والنسيان. غير أن أشياء كثيرة نسيها المؤرّخ الفرنسي، ليس أقلّها أنه لم يفكّر في جعل أي شخصية غير أوروبية موضوعاً لأحد مؤلفاته الكثيرة!