رسائل طاغور الروسية: تأملات في الجانب المظلم من القمر

18 سبتمبر 2020
طاغور عام 1935 (Getty)
+ الخط -

وصلَ رابندراناث طاغور (1861 - 1941) إلى الاتحاد السوفييتي في 11 سبتمبر/ أيلول 1930. وكان قد أعْرَبَ عن رغبتِه في زيارة البلادِ عندما التقى سفيرَ الاتحاد السوفييتي في استوكهولم ألكسندر أروسييف. كان أروسييف كاتباً صغيراً يرأسُ اتحاداً للعلاقات الثقافية مع دولٍ أخرى، وقد أُعدِمَ لاحقاً في عهد ستالين. دعا الكاتب المسرحي والناقد والصحافي أناتولي لوناشارسكي، الذي يعمل في وزارة التعليم، طاغور إلى روسيا بصفتِهِ الشخصيّة. تحمّسَ الكثيرون لزيارةِ طاغور، ومنهم المستشرق الروسي سيرغي أولدنبورغ المتخصّص في الدراسات البوذيّة.

لا تركّز هذه المقالة على تفاصيلِ الزيارة، بل على النصّ الشهير الذي نتج عن زيارة طاغور إلى روسيا: "رسائل من روسيا". تُرجمت الرسائلُ إلى اللغة الروسيّة في عام 1956. ويبدو أن ستالين لم يكن سعيداً بالرسالة الثالثة عشرة، والتي أدلى فيها طاغور بانتقادات وملاحظات حول النظام السوفييتي. لذلك لم تُنشر مقابلة طاغور مع صحيفة إزفستيا الروسيّة اليوميّة في عام 1930 بأوامر من ستالين. نُشرت المقابلة لاحقاً في عام 1988 في عهد غورباتشوف.

الرسالة الأولى التي كتبها طاغور من روسيا مؤرّخة في 20 سبتمبر. كانت رسالته الثالثة الرسالة الأخيرة التي كتبها من الأراضي الروسية، والموقّعة على النحو التالي: "موسكو، 25 سبتمبر، 1930". 

غادرَ طاغور شواطئَ الاتحاد السوفييتي في 25 سبتمبر، ووَصلَ إلى برلين في الثامن والعشرين من الشهرِ نفسِه، في اليوم الذي كتبَ فيه الرسالة الرابعة للوطن. ما يثير الاهتمام أن طاغور كان يتحدّث في الرسائل الثلاث التي كتَبَها من برلين - أي الرسالةُ الرابعة والخامسة والسادسة - عن انطباعاته عن روسيا فقط.

كتب طاغور اعتباراً من 3 أكتوبر/ تشرين الأول، أي منذ رسالته السابعة فصاعداً، من سفينة المحيطات الألمانية "إس إس بريمن" في طريقه إلى أميركا. لكن الموضوع الأساسي بقيَ تأثير روسيا، والأسئلة التي أثارتْها الزّيارة في ذِهنِ الشاعر.

أجرى مقابلة مع صحيفة روسية لكنها لم تُنشَر إلّا عام 1988

يطرحُ طاغور في رسالته الأولى في 20 سبتمبر السؤال التاريخي عن "الأشخاص المجهولين" في العالم، والذين يعيشونَ بلا كرامةٍ ولا أمل. يقول إنه "لا يمكن بناء أي شيء يتّصفُ بالدّيمومة على المحبة"، تلك القيمة المثاليّة المسيحيّة القديمة. يدمِجُ طاغور فكرةَ الإيثار بالاشتراكيّة: "لا يمكنُ للفرد أن يقدّم مساعدةً حقيقية سوى من خلال المساواة وحسب"، ويأخذ النقطة إلى أبعد من ذلك: "لا يمكن للإنسان أن يفعلَ الخيرَ لمن لا يحترمه"، ثم يتعمّقُ أكثر نحو فكرة أن احترام الآخرين عبارة عن قيمة تحدّدها المساواة الرسميّة والسياسيّة بموجبِ القانون.

إن فكرة "المساواة" ظاهرة أخلاقية وذات بعد اجتماعي، حيث يتأتّى الدافع الأخلاقي لفعل الخير للآخرين من روحِ المساواة. يشيرُ طاغور هنا إلى أن العدو الرئيسي ضد الإيثار الاجتماعي القائم على المساواة والاحترام هو "المصلحة الذاتية". يعني طاغور هنا المصلحة الذاتية للسلطة التي "تَحرِمُ الناس من حقوقِهِم الإنسانيّة". تستندُ فكرةُ الاحترام والإيثار والمساواة على أُسُسٍ ماديّة. ويشيرُ طاغور إلى النقطة الماركسية اللافتة للنظر التي مفادها أن "الحقّ في الأرض لا يَخُصُّ أخلاقياً مالك الأرض، بل يَخُصّ الفلّاح".

شعرَ طاغور بأن روسيا قد وَجَدَتْ "حلاً جذرياً" لمشكلة المصلحة الذاتية في الشيوعية. ولكنه اعتبر أن الوقت لم يَحِنْ بعد للتعليق على "الثّمرةِ النّهائيّة" للتجربة. أشار طاغور على نحو غامض إلى "عيوبٍ خطيرةٍ" في النظام. وقد زار روسيا لاهتمامه الأساسي بدراسة نظام التعليم الجديد في ظل النظام الشيوعي. وقد أُعجب بـ "التجارب" التي تُجرى هناك على "طرائق التدريس". وقد أثنى على هذا النظام التعليمي طيلة الزيارة، ولكنّه تركَ تحذيراً مبكّراً في رسالته الأولى مفادُه أنه قد يكون من الصعب الحفاظ على "نظرية تعليم لا تتوافق مع قانونِ العقلِ الحيّ".

رسائل من روسيا - طاغو - القسم الثقافي

 

كانت هناك بعض النقاط الهامة في انطباع طاغور عن نظام التعليم السوفييتي أيضاً، فقد روى في رسالته الخامسة، التي كتبها من برلين في الأول من أكتوبر، عن زيارته لمركزٍ تعليميّ يُدعى "كومونة الروّاد". وقد تأثّر بترحيبِ الأطفالِ الأيتامِ الذين لا تَظهرُ عليهم أي علامة إهمالٍ أو ارتباكٍ، وقد أجابوا عن أسئلته بثقة. قام الطلاب بدور "الصحف الحية" وشرحوا له الخُطّة الخمسيّة. وكتبَ طاغور في رسالته السابعة عن كيفيّة استخدام السوفييت للمتحف كموقعٍ تربويّ.

لاحظَ طاغور في رسالته الثانية التي كتبها في 19 سبتمبر، أن "رؤية الثروة" قد شَهِدَتْ تغييراً واضحاً بفضل انتفاء "التمييز بين الناس على أساس الثروة" في روسيا: "ليس هناك شيء غيبيٌّ في الفقر، بل إنه مُجرّدُ حاجة". لذلك يجد البشر أنفسهم متساوين عندما يتم التغلّب على الحالة الاجتماعية للفقر من خلال إدراك الحالة الطبيعيّة للحاجة. 

يقوم هذا التصوّرُ على فكرةِ أنّ: الحاجة طبيعيّة، والفقرُ اجتماعيّ.

يتعامَلُ طاغور مع فكرةِ المُلكيّة في رسالته الخامسة في الأول من أكتوبر من برلين، فقد كتبَ: "المُلكيّة الشخصية للفرد هي لغةُ فرديّتِه. فلو كانت مجرّد وسيلةٍ لكَسْبِ الرّزق وليس للتعبيرِ عن الذّات، لكان من الأسهلِ إقناعُ الفردِ بالحُجّة بأن المرءَ يُحسّنُ معيشَتَهُ بالتخلّي عنها".

يساوي طاغور فكرة المُلكية الخاصّة بالفِكْرِ والموهبة، وحجّتُه أن المُلكيّة جزءٌ من شيءٍ جوهريٍ وخَلّاق. يعتقدُ طاغور أنه يمكنكَ تقييدُ "النّزعة الفرديّة المُفرِطة" ولكن لا يمكنكَ التخلّص من "الرغبة" في المُلكيّة الخاصّة. كما أن الحاجة أمرٌ طبيعيّ، فإن الرّغبةَ في المُلكية الخاصّة أمرٌ طبيعيٌّ أيضاً. يجب أن تعمل فكرة "الصالح العام" وفقًا لطاغور كمبدأ مُزدوج: مَنْعُ المُلكيّة "من التحوّل إلى الجشع والخداعِ والقسوة"، ولكن أيضاً عدمَ نزعِ المُلكية "بالقوّة". يؤمنُ طاغور، مثل روسو، بأن المُلكية طبيعيّة ولا بد من إعادة تشكيلِها لخِدمةِ الصالح العام.

تناولت الرسائل الأسئلة التي أثارتها الزيارة في ذِهنه

كتبَ طاغور في حالة الشيوعية الروسيَة: " أنْكَرَ السوفييت ذلك في محاولة لحل المشكلة. وهكذا لم تكنْ هناكَ نهايةٌ للعنف". تنبُعُ الجذور النفسيّة للعُنفِ الذي أطلَقَهُ النظام السوفييتي من الرفض الأيديولوجي لقبولِ الفردِ الحديث. 

في الرسالة الثالثة عشرة المكتوبة في 3 أكتوبر، والتي أغضبت ستالين، يحاجِجُ طاغور بشدّة لصالحِ الفرد، ويعتقدُ أن روسيا بِمَحْوِها "الخطّ الصحيح للفَصْلِ بين الفرد والمجتمع" قدْ تصرّفتْ "بما لا يختلف عن الفاشيين". مما يجعل النظام السوفييتي يجدُ صعوبةً في تفسيرِ قمعِ الفردِ باسم الحياة الجماعية. هذا هو "الجانبُ المُظلمُ من القمر" الوصف الشهير الذي أطلقَهُ طاغور عن روسيا في رسالته الثامنة.

اتّفقَ المُنْشَقّون السوفييت مع طاغور. فقد أدت حالة الإنكار التي وقع فيها النظام السوفييتي إلى جنون العظمة الذي تجلّى في قمعِ أيّ صوتٍ نقديّ. يقدّم طاغور في هذا الصدد حجّتين لافِتتين للغاية. أوّلاً أنّ النظام الشيوعي ارتكبَ "خطأً غريباً": باستخدام "تفسيرٍ تصويريّ وسينمائيّ للتاريخ" لإظهار قسوة الإمبراطورية القيصرية، وقد انتهى الأمر بالنظام الشيوعي إلى تبنّي "سياسةٍ قاسيةٍ مماثلة". لطالما تكرّرَ هذا في التاريخ، حيثُ تدمّرُ هذه الأنظمة المنطقَ والقوّة الأخلاقية لحُجّتِها أو دعايتِها ضدّ الأنظمة الأخرى، من خلال الانخراط في أعمالِ العنفِ المُماثلة. وهذا يمثّل النّفاقَ الأخلاقيّ والسياسيّ في آن واحد، ويحدّ من السلطة تماماً، ولا يمكنكَ خداعُ أحد به في نهاية المطاف.

تعيدُ الحجة الأخرى المثيرة للاهتمام التي يقدّمها طاغور ضد هذا العنف الجدلَ إلى مسألة الطبيعة. يقولُ طاغور: "إن الأشخاص الذين لا يمتلكون الصّبر لانتظار أن تتصالحَ الطبيعةُ البشريّة مع زمنِها يؤمِنونَ بالاضطهاد". ففكرة الطبيعة البشرية في هذه الصيغة فكرةٌ قابلة للتغيير، والطبيعة البشرية ليست ثابتة. إذا أردنا تغيير الطبيعة البشرية أو تغيير حساسيتها، فلا بد من منحها الوقت الكافي. يطالِبُ طاغور بالصّبر عندما "تكونُ النظريّة جاهزة، أما البشر فلا" وهذا تصريحٌ هامٌ ضد التنظير المُتصوّر كمشروعٍ علميّ، والذي يتم تنفيذُه كَعِلمٍ تطبيقيّ على المجتمع البشري.

طاغور في الاتحاد السوفييتي - القسم الثقافي
(طاغور مع طلاب مدارس في الاتحاد السوفييتي، أيلول/سبتمبر 1930)

لا يعارضُ طاغور مجيء التغيير العظيم وخلقَ "عصرٍ جديدٍ" يقتَلِعُ "المعتقدات والعادات القديمة". وينتقدُ طاغور في رسالته الثالثة معنى كلمة "التقليدي" كشيء "ملتصق" بالبشر مثل "الشقق الكثيرة" التي "يحرُس بوّاباتِها حراسٌ لا يُعدّونَ ولا يُحصَون".

تُذكّرنا هذه الصورة (وهذا الوصف) للتقاليد بوصف أمبيدكار، حيث تُحظَر أبواب المعرفة والسلطة على أيدي حرّاس البوّابة الذين يتمتّعون بالانتماء إلى فئةٍ أو طبقةٍ اجتماعيّة مُعيّنة. تحمّسَ طاغور لأن هذه البوابات قد تحطّمتْ في الاتحاد السوفييتي. ولكنه قَلِقَ في الوقت نفسه من "الغرور" الذي يدخل في مشروع المساواة في الرغبات. يريدُ طاغور، بروح الرومانسيين التي يتمتّع بها، أن يتمّ "التودّد" للطبيعة البشرية بدلاً من استعمال الإكراه. ويبدو أن طاغور يُفضّلُ سياسة الإقناع الأرسطيّة.

ربما أوجَدَتْ لنا فكرةُ طاغور هذه أرضيةً ومساحةً لإعادة التّفكير في مسألة العنف الأصليّ. إذا كان من المستحيل التفكير في الثورات الحديثة بدون عنف، فإن أولئك الذين يؤمنون بمبدأ التغيير هذا ينبغي أن يعترفوا بأن العنف يحدّ من أهدافه تدريجياً، ويتغلّبُ في النّهاية على الإنجاز. تجاهَلَ ستالين تحذيرَ طاغور الذي جاء في الوقت المناسب للاتحاد السوفييتي، والذي تحوّل إلى نبوءة. الشعراءُ رؤيويّون أفضلَ من الطّغاة.

لا ينسى طاغور بكل تأكيد الإشارةَ إلى الفارق المهمّ بين التجربة الشيوعية والتجربة الفاشيّة. ويعترفُ بأن الدولة السوفييتية قد أوقفتْ "جَشعَ القوة المُطلَقَة" مما أدّى إلى قمعِ الحُريّة الفرديّة، ولكنها كانت تتضمّن مع ذلك "ميزةً تعويضيّةً":

"فيما يتعلق بالمبادئ السوفييتية الأساسية، فإنهم لا يتوقّفون في سعيهم لزيادة القوة الكامنة للإنسان من خلال التعليم العام والثقافة: إذ لم يقمعوها قمعاً تاماً مثل الفاشيين".

الفاشيّة اعتداءٌ على الحريّة الثقافيّة وروح التعليم، واللذّين يتطلّب كلاهما، وفقَ رأي طاغور، الاستثمارَ في التغيير الاجتماعيّ وروحَ المساواة غير القَسْرِيّة. يُحذّر طاغور من "التواصُلِ القاصِرِ بين إرادةِ الحاكمِ والمَحكوم". وها نحن نشهدُ مجدداً الطبيعة القَسْرِيّة لهذا التواصل اليوم. لقد وجّه طاغور تحذيراته لنا وللأنظمة الديكتاتورية على حد سواء، ولا بد أن نتذكّر هذا جيّداً. 


* Manash Firaq Bhattacharjee كاتب هندي

** ترجمة عن الإنكليزية: عماد الأحمد

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون