على كورنيش نهر بينتوتا فى سيريلانكا استوقفنى سائح ألماني فى العقد الخامس من عمره، وقال لى أنت مصري؟ قلت نعم. قال أنا أعشق مصر وقد زرتها كثيرا، ولكني لا أستطيع السفر إليها الآن فقد أصبحت خطرة، ويضرب فيها الإرهاب بقوة ولا تعرف الاستقرار؛ ولذلك جئت إلى سيريلانكا هذا العام.
هذا الحوار القصير أثار شجوناً؛ فدولة سيريلانكا منذ عام 1983حتى نهاية عام 2009 كانت مسرحا لحرب أهلية مُستعرة امتدت قرابة 30 عاما بين مقاتلي نمور التاميل والحكومة المركزية بلغ عدد ضحاياها قرابة (70 ألف قتيل، 900 ألف لاجئ، 100 ألف نازح)، وتحطمت أثناءها حركة السياحة السيريلانكية، وتوقف عجلة الاقتصاد، وتقطعت أوصال الدولة جراء توقف حركة القطارات بين جنوب البلاد وشمالها نتيجة أعمال القتال.
في عام 2009 توقفت الحرب وبدأ طرفا النزاع فى المفاوضات، بعدما أدركا أن خيار الحرب الأهلية كان خطأً. قفز هذا السؤال إلى ذهني: هل ستأخذ مصر مقعد سيريلانكا في الحرب الأهلية ؟ الصراع السياسي في مصر مع كل إشراقة شمس يزداد تعقيداً، وأصبح استخدام العنف فيه شائعاً، ما دعاني إلى كتابة مقال يشرح الأخطاء السبعة التي وقع فيها طرفا النزاع في سيريلانكا وقادتهم إلى محرقة الحرب الأهلية، وذلك بهدف حث المصريين على تجنبها إذا أرادوا النجاة والعيش فى سلام ووئام، وهي كالتالي:
أولاً: انحياز الدولة لمصلحة فئة اجتماعية أو دينية أو عرقية، يؤسس لعدم الاستقرار ويُنشئ التوترات؛ في 1972 تم إقرار الدستور السيريلانكي الجديد بعد الاستقلال، وجاءت بنوده لتعزز مكانة الدين البوذي في الدولة، واعتبرت سيريلانكا حامية له، وعندها شعرت الأقلية التاميلية الهندوسية بالإقصاء والتهميش وبدأت بوادر الانقسام الأهلي.
ثانياً: استعلاء الأغلبية السنهالية على باقي المكونات الاجتماعية الوطنية زاد من شدة التوتر الأهلي بين مكونات المجتمع السيريلانكي؛ بعد وصول حزب الحرية السيريلانكي للحكم، وهو حزب مدعوم من طرف النخبة البوذية، تم إقرار السنهالية لغة رسمية وحيدة، عبر قانون السنهالية فقط Sinhala Only Act، ونتج عن ذلك مغادرة آلاف الموظفين التاميليين لوظائفهم، بسبب عدم قدرتهم على الاندماج في سياق لغوي سنهالي لا يتقنونه.
ثالثاً: ديكتاتورية الأغلبية: نزعت الحكومة السيريلانكية الجنسية عن مليون تاميلي من المناطق الجبلية، بذريعة كونهم هنودا وطّنتهم بريطانيا في 1827، وقد مكّنت هذه العملية الطبقة السنهالية الحاكمة من إقصاء ثلث النواب التاميليين في البرلمان.
رابعاً: اللجوء إلى العنف: استخدمت حركة "نمور التاميل" التي تأسست عام 1976 العنف وسيلة للاعتراف بحقوق أقلية التاميل الهندوسية التي تشكل 18% تقريبا من سكان سيريلانكا وأدخلت البلاد فى فوضى كبيرة لم يستفد منها أحد، وإنما خسرت فيها سيريلانكا طاقاتها ومواردها وتعطلت حركة التنمية والاستثمار فيها تماماً.
خامساً: سياسة الأرض المحروقة: أدى استخدام الجيش السيريلانكي القوة المُفرطة تجاه سكان المناطق التي توجد فيها حركة نمور التاميل وتهجيرهم قسراً إلى زيادة حدة الصراع وأنشأ حاضنة اجتماعية متعاطفة مع استخدام العنف ضد الحكومة، ولم يُقدم حلولا جذرية للأزمة، على الرغم من نجاح الجيش السيريلانكي في قتل زعيم حركة نمور التاميل فلوبيلاي برابهاكران والقضاء على العديد من قواته، وهذا ما دعا الحركة لإعلان الاستسلام، إلا أن العديد من الخبراء يرون أن هذا السلام هش، لأنه غير قائم على تطبيق العدالة والمساواة.
سادساً: تعدد جبهات الصراع: تورُّط حركة نمور التاميل في اغتيال حاكم منطقة جافنا عام 1975، واغتيال رئيس الوزراء الهندي راجيف غاندي في مدينة مدراس عام 1992، واغتيال رئيس سيريلانكا بريماداسا سنة 1993، بالإضافة إلى الهجوم على مطار كولومبو سنة 2001، أفقد الحركة التعاطف المحلي والعالمي وجعل أكثر من 30 دولة تعتبر حركة نمور التاميل ضمن الحركات الإرهابية، ومنها دول الاتحاد الأوروبي والهند والولايات المتحدة الأميركية.
سابعاً: رفع سقف المطالب: مطالبة حركة نمور التاميل بانفصال المناطق الشمالية والشمالية الشرقية من سيريلانكا من أجل إقامة دولة للأقلية التاميلية الهندوسية بعيدا عن سيطرة الأغلبية السنهالية، سبّب توتراً كبيراً في السياسة الآسيوية الإقليمية، وجلب للحركة أعداء دوليين كان من أبرزهم الهند التي كانت تخشى من نجاح نمور التاميل فى الانفصال عن سيريلانكا، لأن ذلك سيؤدي إلى مطالبة الأقليات العرقية الموجودة فيها بالانفصال أيضا، وهذا كان يعد سببا كافيا لتعاون الهند مع حكومة سيريلانكا في حصار قوات نمور التاميل ومنع إمدادات السلاح عنهم.
فى الختام ينبغي على المصريين جميعا باختلاف فئاتهم الاجتماعية وخياراتهم السياسية وتركيبتهم العرقية واختياراتهم الدينية والأيديولوجية أن يدركوا أن التوترات الأهلية والانقسامات الأيديولوجية والخلافات السياسية إذا لم تعالج بالقسط والعدل ووفق قيم المساواة والإنصاف والكرامة وحقوق الإنسان، بعيدا عن خيار القهر والعنف؛ نحن نسير جميعا إلى سيناريو الحرب الأهلية السيريلانكية التي احتكم فيها الجميع هناك إلى منطق الغباء السياسي، لفلسفة المعارك الصفرية ولاستخدام العنف، فكانت النتائج كارثية على العباد والبلاد على مدار ثلاثة عقود من الدماء والأشلاء والدموع؛ فالسعيد من اتعظ بغيره والشقي من اعتبر بنفسه.