رسوب إعلامي عربي
خسرنا نحن العرب، مرة أخرى، بعد أحداث "شارلي إيبدو"، وحجم الخسارة كبير جداً، لا يقدره حق تقديره إلا من يعيش في أوروبا، ويتماس يومياً مع الأوروبيين في الشارع والعمل والمقهى ووسائل المواصلات العمومية، والأهم من ذلك كله، القصف الإعلامي في الصحافة المكتوبة وفي عالم النيوميديا وفي الإعلام الفضائي والإذاعات، هذه الأخيرة التي عاد إليها مجدها، إبّان الأحداث الإرهابية، من خلال استهدافها ملايين الأوروبيين في البيوت والسيارات ووسائل النقل، ليتحول النقاش من حالة محدودة في الزمان والمكان إلى فرصة سانحة لتسديد ضربة في مقتل، فكل شيء جاهز: السياسات المتشددة والرأي العام المهيَّج والصبغة المدانة التي اكتساها الاعتداء. والنتيجة، خروج كل صاحب حاجة ومأرب، من سياسيين ومحللين وصناع رأي عام ومشرعين، ليقضي كل منهم وطره، في هذه المرحلة الصعبة التي تجتازها الجاليات العربية والمسلمة، أمام ضعف إمكاناتها، ومحدودية قوتها، وتفتتها الذي أنهكته، أيضاً، انقسامات المسلمين في العالم العربي، فكان أن انتقلت تلك الأمراض إلى البيت الأوروبي، وبالتالي، لا وحدة ترتجى.
في المقام نفسه، أبانت الآلة الإعلامية الأوروبية عن شراسة قاصمة، وبرهنت على مقدار انحيازها الكبير وقدرتها على قلب الحقائق في لغة تعميمية، وتحليل تبسيطي وساذج، متعمد في أغلب الأحيان، وذهاب بمعضلة التطرف التي يعاني منها العالم العربي إلى أقصى درجات الاستثمار السياسي، من دون أدنى وقفة ضمير مهني، يحلل الظاهرة، ويرد الأسباب إلى أصولها، ولا يخلط الأوراق، حيث تحول كل عربي مسلم إلى مدان، ولو ظهرت صكوك براءته.
وليس خافياً أن هذا التشدد في الإسلام الأوروبي، نبت في أكثر من عاصمة أوروبية، وتحت أعين سلطاتها، بل بمباركتها في أحيانٍ كثيرة، عندما اختارت التغاضي عن الأموال التي كانت تصل إلى جمعيات صغيرة تنشط في أوساط المهاجرين العرب.
ولأن الأمر كان يخدم مصالحها، من خلال "تربية" معارضات دينية وسياسية عدداً من الأنظمة العربية، أو جعل مصالحها الاقتصادية فوق كل اعتبار، فقد تحولت، تبعاً لذلك، أوروبا، إلى ساحة للاستقطاب الديني وللخطابات المتطرفة.
كانت الذريعة هي حقوق الإنسان وكونيتها، لكن اليوم لم يعد الحال كذلك، فقد أعلنت السلطات الفرنسية، عقب الاعتداء على الصحيفة الساخرة، أنها ارتكبت خطأً عندما سمحت بوصول تمويلات إلى جمعيات تنشط في أوساط العرب والمسلمين فوق التراب الفرنسي، وهذه أول مرة نسمع فيها كلاماً رسمياً من هذا القبيل، بعد أن كشفت التحقيقات الأولية أن الأخوين كواشي تلقيا مبالغ مالية لتنفيذ عمليتهما الإجرامية، والأكثر أن هناك دعماً لوجستياً عابراً للحدود، وفر الغطاء وأمّن العملية الدموية.
من ناحية أخرى، كان أداء الإعلام العربي باهتاً، وبلا مضمون، وفي موقف ضعيف جداً، ولم يسعفه وقع الجريمة المدانة في بناء خطاب عقلاني. فكل ما كان يريد قوله هذا الإعلام سبقه إليه الموقف الرسمي الفرنسي والأوروبي، عندما جرى التأكيد، منذ الساعات الأولى للجريمة، أن الإسلام بريء من هكذا جرائم.
لكن، كيف يمكن، اليوم، تبرئة المسلمين من متطرفين يحيون بينهم، وربما في البيت الواحد وتحت السقف نفسه.
تقول شابة مغاربية بلكنه ساخرة، في فيديو متداول هذه الأيام على "يوتيوب": ماذا تريدون منا، قولوا لنا بكل صراحة أقلعوا عن أن تكونوا مسلمين.
قد يلخص هذا الجواب الساخر المسافة الحقيقية التي تجري فيها الحرب على التطرف الديني، والمشوبة بالكثير من الأخطاء والتعميم القاتل، والذي ليس أقل وقعاً من اقتحام مقر جريدة وقتل صحافييها في مشهد هوليودي، يشبه استعراضات المافيا في عملياتها الانتقامية.