خلال العقود الأربعة الأخيرة، شهدت عادات رمضانيّة عدّة في السعوديّة تغيّراً جذرياً. وهو ما أدّى إلى اختفاء عدد كبير من العادات التراثيّة الشعبيّة اللصيقة بحياة الناس والمحبّبة إلى النفوس، مثل المسحّراتي الذي كان يجول أزقة العديد من مدن المملكة، وهو يحمل طبلة ويردّد الأهازيج وقد اقترب وقت السحور، وذلك بهف إيقاظ النيام، فيما يسير الأطفال خلفه مبتهجين.
ويأتي غياب المسحّراتي بحسب ما تشير الحاجة أم أحمد، متزامناً مع اختفاء صوت مدفع الإفطار، الذي ارتبط بذكريات عدد كبير من أبناء الأجيال السابقة، تماماً كأصوات المتهجدين ومرتلي القرآن فوق أسطح المنازل بعد الإفطار وفي وقت السحر، وكذلك جماعات القراء الذين يختمون القرآن كل ليلة في أحد بيوت الحي، وموائد إفطار الجيران المشتركة، والتعاون بين الجارات في تجهيز مؤونة شهر رمضان قبل حلوله.
من جهته، يقول العم سالم إن طقوس الاحتفالات بحلول هذا الشهر انحسرت ولم تعد موجودة، مثل نصب الخيم والمراجيح الرمضانيّة التي يتم تثبيتها يدوياً بواسطة الخامات المتوفرة بالإضافة إلى تعليق لافتات تحمل عبارات الترحيب والتهنئة بحلول الشهر الكريم، إلى جانب تزيين الأحياء وإضاءتها باللمبات مع ثبوت هلاله في بعض مناطق السعوديّة.
وفيما فقدت بعض المناطق في السعوديّة معظم العادات التراثيّة بسبب زحف التمدّن وإيقاع الحياة العصريّة المتسارع، ما زالت مناطق أخرى تصارع جاهدة للحفاظ على ما تبقى من أوجه التراث الرمضاني. تقول فاطمة محمد إن عادة المسحراتي ما زالت حاضرة بعض الشيء في بعض القرى والمجمعات التجاريّة، بالإضافة إلى إقامة المهرجانات الرمضانيّة بشكل فلكلوري. كذلك ما زال أهالي منطقة عسير الواقعة في أقصى الجنوب الغربي من المملكة، يحاولون الحفاظ على عادة أجدادهم في تأكيد ثبوت الهلال بإشعال النيران على أسطح المنازل.
عندما نفقد العادات
كضريبة للنمو العمراني والرخاء الاقتصادي والحياة العصريّة، التي تشهدها العواصم عادة، بات العديد من السعوديّين المقيمين على وجه الخصوص في مدينة الرياض يفتقدون الكثير من العادات المرتبطة بشهر الصوم.
ويعبّر السبعيني أبو خالد عن افتقاده خلال العقود الأربعة الأخيرة أهم مظاهر الشهر الفضيل التي عرفت بها مدينة الرياض سابقاً ومنها مدفع رمضان. ويلفت إلى أن صوت طلقات المدفع كانت تثير جواً من البهجة عندما تعلو مع بداية الإعلان عن ثبوت هلال رمضان وفي أوقات الإفطار والسحور والإمساك وليلة عيد الفطر المبارك "إذ كان الصغار يسعدون برؤية منظر أكياس الخيش وهي تتطاير من المدفع، بعد أن يشعل العسكري المكلف بذلك النار في قطعة من الخيش ويرميها في فوهته المحشوة بالبارود".
كذلك، يفتقد أبو خالد صوت آذان الشيخ عبد العزيز بن ماجد الذي كان ينطلق من مأذنة الجامع الكبير وسط العاصمة، وكذلك دقات ساعة الصفاة أو ما يعرف بساعة "بيغ بن السعوديّة" المجاورة للجامع والتي التزمت الصمت منذ عقود.
ويتحدّث أيضاً عن افتقاده والكثير من أبناء جيله المسلسل الإذاعي اليومي "أم حديجان" الذي كانت تبثّه إذاعة "الرياض" طيلة شهر الصيام، وعن شوقه إلى وجبة الإفطار البسيطة التي لا تتعدى طبق الشوربة المعدّ من الجريش وخبز التميس الشعبي واللقيمات المغمسة بالعسل أو السكر المذاب والمهلبيّة.
وتشرح المهتمّة بالعادات والتقاليد نهى راضي أنه في الوقت الحالي لم يعد ثمّة الكثير من الممارسات الرمضانيّة التي تميّز المجتمع السعودي عن بقيّة المجتمعات العربيّة والإسلاميّة، بعدما حوّل العصر ووسائل التقنيّة الحديثة العالم إلى قرية صغيرة تتشابه كثيراً في عادات أهلها ونمط عيشهم.
فحالياً، يتحوّل ليل رمضان في السعوديّة إلى سهر حتى ساعات الصباح الأولى، فيما يتحوّل جزء كبير من النهار إلى الخلود للنوم. وقد ساعدت على هذا النمط الجديد من الحياة الرمضانيّة، عوامل عدّة باتت ترافق أيام الشهر، منها تأخير موعد دوام الموظفين نحو ساعتَين وتقليل عدد ساعات العمل. فعوضاً عن بدء الدوام في السابعة أو السابعة والنصف صباحاً كما في بقيّة أيام العام، يتأخر حتى التاسعة أو التاسعة والنصف. إلى ذلك، فإن هذا الشهر يحلّ في السنوات الأخيرة خلال إجازة الصيف، وبالتالي ما من قيود على سهر تلامذة المدارس.
من جهة أخرى، تعمر موائد الأسر السعوديّة في هذا الشهر بمختلف أنواع الأطعمة، مع كثرة إقامة الولائم. لذا تلجأ ربات الأسر السعوديات إلى تدابير تساعدهنّ على التمتّع ببعض ساعات الراحة والاسترخاء في هذا الشهر، ومنها تجهيز العديد من الأطعمة وتجميدها أثناء شهرَي رجب وشعبان، بخاصة تلك القابلة للتجميد مثل ورق العنب والسنبوسك ومختلف أنواع الكبّة وحتى بعض أنواع المعكرونة وغيرها. وقد يعمد البعض منهن أيضاً إلى شراء بعض الأطعمة الجاهزة من سيدات ينشطن في هذا المجال بخاصة قبل حلول رمضان.
ليالي رمضان
تسبق موعد الإفطار عادة في السعوديّة، حركة لافتة في شوارع المملكة ومساجدها ومطابخ منازلها، إذ ينشط العديد من الفتية والشباب فيقفون أمام شارات المرور لتوزيع وجبات صغيرة مكوّنة من التمر والماء والعصائر والفطائر المغلفة، على العابرين وركاب السيارات وذلك في إطار مشروع "إفطار صائم"، فيما ينشط آخرون بتجهيز موائد رمضانيّة مجانيّة في خيم تنصب لهذا الغرض وتستقطب غالباً العمالة الوافدة.
وتقام كذلك موائد عامرة أيضاً في مداخل المساجد، تتشارك إعدادها ربات المنازل إلى جانب بعض المتطوّعين. وبذلك تسود موائد الإفطار المنتشرة في كل المناطق، حالة من التلاحم والتكافل التي يشتهر بها السعوديّون في هذا الشهر. وتقام أيضاً ولائم بشكل مكثف ودوري في محيط الأسر والأقارب، بالإضافة إلى ما يعرف بـ"النغصة" وهو عبارة عن عيّنات من أطباق رمضان تقوم القريبات والصديقات والجارات بتبادلها قبل الإفطار.
بعد تناول وجبة الإفطار، يسود عادة جو من الاسترخاء. فيتحلق أفراد الأسر حول صينيّة الشاي الأسود وصواني الكنافة والبقلاوة والأنواع المختلفة من الكعك والحلويات، ليشاهدوا البرامج التلفزيونيّة والمسلسلات. من ثم يتفرق أفراد الأسرة بعد هذا الوقت الممتع. فيأخذ البعض منهم قيلولة في حين يتوجّه الشباب والشابات إلى المجمعات التجاريّة حيث يحلو السهر وتكثر المهرجانات الرمضانيّة والعروض والمسابقات والبرامج الترفيهيّة. إلى ذلك تتبادل النسوة الزيارات، فيما يتّجه الرجال إلى المقاهي والديوانيات حيث يجتمع الأصحاب، لقضاء الوقت وتعمير الشيشة. ويكون ذلك فرصة أيضاً لمتابعة بعض البرامج الرمضانيّة. ومن المتوقّع أن تحوز هذا العام متابعة مباريات كأس العالم على نصيب الأسد، بين محبّي ومشجّعي كرة القدم بخاصة في المقاهي والديوانيات. وفي نهاية الشهر يتوجّه العديد من السعوديّين من كل الشرائح العمريّة إلى المساجد لإقامة صلاة التراويح وإحياء ليالي القدر.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن السعوديّين أبناء تلك الدولة التي تشتهر مناطق عدّة منها بأجود أنواع التمور في العالم، يفطرون على التمر والماء عملاً بالسنّة النبويّة.