منذ مئات السنين ورمضان يمتاز بخصوصية فريدة بدمشق، لا تخفى على كل من يزور شوارعها القديمة في أحياء القيمرية والعمارة والقنوات والشاغور والميدان، حيث تعلق الزينة وتفتح المحلات حتى وقت متأخر، وتضجّ المقاهي والمطاعم بالرواد الذين يتسامرون ويسهرون يستمعون إلى الحكواتي وأغاني الفلكلور الجميل، ويتناولون الفول وكعك التماري ويتذوقون الحلويات التقليدية من برازق ومعمول بالعجوة والجوز وقطايف عصفورية وغيرها.
أبو عماد لبابيدي (67 عاماً)، أحد أبناء دمشق الذين لم يبيتوا يوماً خارجها باستثناء فترة الخدمة العسكرية، يسير في شارع الميدان بعد الإفطار، ويقول لـ "العربي الجديد" "هذا الشارع معروف في دمشق بأطيب الحلويات والأطعمة التراثية، اليوم، وعلى الرغم من مظاهر الاحتفال، لا أشعر أن وجوه الناس فرحة كما كنت أراها أيام زمان".
ويضيف "لم تعد الشام التي أعرفها، ففي الشارع الذي أسكن به منذ صغري وحتى البناية التي أقيم بها، كثيرة هي الوجوه التي لا أعرفها، بالكاد يرمي الجيران السلام على بعض، كل يرتاب من الآخر، حتى أهل البيت فرقتهم الأزمة فقد كان رمضان مناسبة لأجتمع بأولادي وأحفادي، أما اليوم فقد أصبح كل واحد منهم في بلد، والله وحده يعلم إن كانوا سيعودون أم لا".
بدوره، يقول الخمسيني أبو عمران، وهو صاحب محل لبيع الحلويات في الميدان، "كل هذه الحركة دون جدوى، فما نجنيه بالكاد يغطي مصاريف اليوم، الكثير من الناس يشترون بكميات محدودة جداً، وهناك من يقصد السوق للفرجة فقط".
ويوضح لـ "العربي الجديد" "فيما مضى كان شهر رمضان يمثل موسماً يعادل العام، نبدأ التحضير له قبل أشهر، اليوم بالرغم من أن الوضع يتحسن، إلا أنه ما زال بعيداً عن آمالنا".
من يتجول في شوارع دمشق يلحظ على أرصفتها باعة مأكولات وعصائر ارتبطت بشكل كبير برمضان، حتى أنها أصبحت إحدى مظاهر هذا الشهر الكريم، فهنا بائع "الناعمة"، وهي عبارة عن رقاقة من العجين يرش عليها الدبس، وهناك بائع عصير عرق السوس والتمر حنا وقمر الدين، فهذه العصائر تكاد تكون إحدى مكونات موائد رمضان الأساسية.
أما الناشط في دمشق أبو محمد الشامي فيقول "الحياة غريبة ومتناقضة، ففي دمشق تمر من أمام الجمعيات الخيرية، تجد الناس يصطفون بانتظار وجبة إفطار أو حصة غذائية، وفي ذات الوقت ترى المقاهي والمطاعم في دمشق القديمة والربوة تغص بالزبائن".
ويشير إلى أن "طقوس رمضان تغيرت بشكل كبير عما كانت عليه قبل 10 سنوات مثلاً، فالحكواتي الذي كنا نشاهده في المقاهي الشعبية أصبح فقرة تراثية عابرة، وتم الاكتفاء ببرنامج غنائي، بالإضافة إلى تقديم بعض الأطعمة والمشروبات التي ارتبط اسمها بموائد رمضان".
كما يلفت إلى أن "الشوارع تشهد حركة يومية حتى وقت متأخر من الليل، خاصة أن سكان دمشق يشعرون نوعاً ما بالانفراج، عقب هدوء العمليات العسكرية في محيطها، لكن مازال ملايين السكان فيها يحلمون بالعودة إلى مدنهم وبلداتهم التي نزحوا منها قبل سنوات، ومنهم من ينتظر أن يخرج معتقلوهم الذين انقطعت أخبارهم منذ سنوات، وآخرون يأملون بأن يجتمعوا بعائلاتهم قبل أن يغيبهم الموت".
أمّ محمد (60 عاماً)، من سكان دمشق القديمة، تشرح لـ"العربي الجديد"، "كان رمضان شهر العزائم والولائم، حيث يستغله الأهل والأصدقاء للقاء ووصل الأرحام، فلا يمر يوم إلا ويكون لدينا ضيوف أو يدعونا أحد الأقارب، لكن في السنوات الأخيرة تراجعت هذه الطقوس بشكل كبير، وذلك إما لرحيل جزء كبير من العائلات، وإما بسبب الوضع المادي، فأصبح قرار دعوة أحد على وجبة الإفطار يحتاج إلى ميزانية".
وتضيف "حتى سكبة رمضان، العادة القديمة التي يتبادل فيها الجيران صحن الإفطار أو الحلوى، تكاد تتحول إلى حكايات من الماضي، فالعائلات اليوم تحاول أن لا تحرج بعضها البعض، جراء تدهور الوضع المادي".
كما تعرب أمّ محمد عن عدم إحساسها بالفرح الذي كان لا يغيب عن عائلتها، بعد أن فقدت أحد أولادها بقذيفة هاون، في حين هاجر ابنها الثاني مع زوجته وأولاده، قائلة "كل يوم بعد الصلاة أدعو لابني بالرحمة، وأن أجتمع بأحفادي قبل أن أموت".
من جهته يتمنى شادي (15 عاماً)، بأن يجتمع في العيد مع والده، الذي هاجر منذ عامين إلى أوروبا، ويقول لـ"العربي الجديد" "رمضان بالنسبة لي أن أزور أبي مع أقربائنا، أن يوقظني على السحور، وأرافقه إلى الأسواق"، مضيفاً "حتى أصدقائي قلة من بقي منهم هنا، فمنهم من سافر ومنهم من انتقل من المنطقة، أتمنى أن نجتمع بأقرب وقت مع أبي".