23 أكتوبر 2024
رمضان والمستقبل
في كل رمضان، في العالم العربي وبلاد المسلمين، تطغى الطبيعة المادية، عوضاً عن الروحية، على الحياة اليومية، على البرامج الدينية التلفزيونية، والخطب الوعظية في المساجد، والدعوات إلى "الإحسان" بالتبرع لفقراء، أو مرضى، أو محتاجين.
تقوم الطبيعة المادية، في ما تقدم، على المقايضة مع الله: يُحسن المرء، فيغفر الله له. يتعبد المرء بصلاته وصيامه، فيعتق الله رقبته من النار. كأنها عبادةٌ لا من أجل الله، بل من أجل ما عنده، ومخافةً من غضبه تعالى!
ولا يتسع المقام هنا لسرد ما يذكّر المسلمين بأن أعلى درجات العبادة لله عبادته لا طمعاً في ما عنده، ولا خوفاً من عقابه، بل محبة فيه وحسب. غير أن ما يمكن إدراكه، هنا، أن تلك العلاقة المادية مع الله، القائمة على المقايضة، استجلاباً لمغفرته، أو درءاً لغضبه، تفسّر هذا الفهم المادي السائد للإسلام بين سواد المسلمين، والمنعكس على شكل العلاقات في مجتمعاتهم، القائمة على تبادل المصالح، سواء بالطائفية أو الفئوية، أو الحزبية، بما فيها التي ترفع شعار "الإسلامية". هذا بدلاً من أن تقوم العلاقات بينهم على أساس التراحم والتعاطف والتعاضد، لا رغبة في مصلحة أو فائدة، وإنما لمجرد كونهم مسلمين.
بعث الله نبيه، وأنزل كتابه، ليخرج الناس من ظلمات الحياة المادية إلى نور الحياة الروحية القائمة على المحبة: محبة الله، ومحبة الناس، تلك التي لا تبتغي مصلحةً، ولا تلتمسها، فتدفع أصحابها لأن ينبذوا الكراهية، والعنف، والغدر، وخيانة الأمانة، وغيرها من ممارساتٍ، يفعلها الناس لأجل أطماعهم المادية الدنيوية. لهذا، لا يكون قد فهم الإسلام، من يصلي ويصوم ويعتمر، ثم لا يسلم الناس من كذبه، أو دسائسه، أو نميمته، كما هو معلوم، إذ ما يصنع الله بصلاتنا وصيامنا، ثم ما يفعل بتعذيبنا؟ فتلك الشعائر أمر بينه وبين ربه: يتقبلها الله أو لا يتقبلها، أما غيبته ونميمته، أو صدقه وأمانته، فهي الأمر الذي بينه وبين الناس، الذي يخرّب المجتمع، أو ينشر فيه الصلاح.
هكذا، فإن سلامة العلاقة بالناس، أي الامتناع عن الكذب، والنميمة، وخيانة الأمانة، ورمي القمامة في الشارع، أو تخريب الممتلكات العامة، أو إزعاج الجيران، أو الاحتيال المالي، أولى من المبالغة في الشعائر والنوافل، لأن الطريق إلى علاقةٍ سليمةٍ مع الله تمر من سلامة العلاقة مع الناس، لا من كثرة الشعائر.
ثمة ضرورتان، إذن، لسلامة إسلام المرء: أن تُقام العلاقة مع الله على أساس المحبة، لا الطمع أو الخوف، وأن تقام العلاقة مع الناس على أساس المحبة، لا تبادل المصالح، أي أن سلامة الإسلام رهن بسلامة القلب وصفائه. ولهذا، بالضبط، تمر الطريق إلى محبة الله من محبة الناس، فلن يبلغ المرء محبة الله، ما لم يكن قلبه سليماً في علاقته مع الناس، ولو صام الدهر، واعتمر في كل رمضان.
ربما يكمن في مثل ذلك الفرق بين الإسلام والإيمان. الأول محكوم بظاهر الأفعال من شعائر وممارسات، أما الثاني فمحكوم بباطنها ونيّة صاحبها. تتوقف مجتمعاتنا اليوم عند الإسلام، وتقصر عن الوصول إلى الإيمان، إذ تمارس دينها على أساس المقايضة مع الله، ومع الناس، لا على أساس المحبة. ولن يفلح أمر المقايضة مع الله، أبداً، لأن لا حاجة له تعالى بنا وبشعائرنا و"طقوسنا". ويتجلى ذلك، مثلاً، في إخفاق فكرة "استجلاب نصر الله" في زماننا، فثمّة قادة وسياسيون اتخذوا الإسلام شعاراً، لكنهم لم ينالوا نصر الله، وذلك طبيعي ومنطقي، لأن الله يتولى المؤمنين الذين يحبهم ويحبونه، لا الذين يعبدونه ليظفروا بنصره.
يبقى أن مثل هذا التعامل المادي مع الإسلام هو الذي جرّ الإسلام إلى مواجهة حضارية، لم يطلبها، مع العلوم الإنسانية والأنماط المجتمعية التي توصل إليها الإنسان، بحكم تجربته التاريخية وحاجاته الحضارية المعاصرة، بشكلٍ بدا معه الإسلام نمطاً ماضوياً تاريخياً غير قابل للتجدد، وبصورة تتعارض مع قاعدة صلاحيته لكل زمان، باعتباره الدين الخاتم الذي جاء للناس كافة. انظروا كيف فعل استعمال المسلمين الإسلام استعمالاً مادياً، بحضوره وفعاليته في التاريخ البشري والحضارة الإنسانية، وكيف أن فعالية الإسلام في المستقبل ستكون رهناً بإعادته إلى طبيعته الروحية.
ولا يتسع المقام هنا لسرد ما يذكّر المسلمين بأن أعلى درجات العبادة لله عبادته لا طمعاً في ما عنده، ولا خوفاً من عقابه، بل محبة فيه وحسب. غير أن ما يمكن إدراكه، هنا، أن تلك العلاقة المادية مع الله، القائمة على المقايضة، استجلاباً لمغفرته، أو درءاً لغضبه، تفسّر هذا الفهم المادي السائد للإسلام بين سواد المسلمين، والمنعكس على شكل العلاقات في مجتمعاتهم، القائمة على تبادل المصالح، سواء بالطائفية أو الفئوية، أو الحزبية، بما فيها التي ترفع شعار "الإسلامية". هذا بدلاً من أن تقوم العلاقات بينهم على أساس التراحم والتعاطف والتعاضد، لا رغبة في مصلحة أو فائدة، وإنما لمجرد كونهم مسلمين.
بعث الله نبيه، وأنزل كتابه، ليخرج الناس من ظلمات الحياة المادية إلى نور الحياة الروحية القائمة على المحبة: محبة الله، ومحبة الناس، تلك التي لا تبتغي مصلحةً، ولا تلتمسها، فتدفع أصحابها لأن ينبذوا الكراهية، والعنف، والغدر، وخيانة الأمانة، وغيرها من ممارساتٍ، يفعلها الناس لأجل أطماعهم المادية الدنيوية. لهذا، لا يكون قد فهم الإسلام، من يصلي ويصوم ويعتمر، ثم لا يسلم الناس من كذبه، أو دسائسه، أو نميمته، كما هو معلوم، إذ ما يصنع الله بصلاتنا وصيامنا، ثم ما يفعل بتعذيبنا؟ فتلك الشعائر أمر بينه وبين ربه: يتقبلها الله أو لا يتقبلها، أما غيبته ونميمته، أو صدقه وأمانته، فهي الأمر الذي بينه وبين الناس، الذي يخرّب المجتمع، أو ينشر فيه الصلاح.
هكذا، فإن سلامة العلاقة بالناس، أي الامتناع عن الكذب، والنميمة، وخيانة الأمانة، ورمي القمامة في الشارع، أو تخريب الممتلكات العامة، أو إزعاج الجيران، أو الاحتيال المالي، أولى من المبالغة في الشعائر والنوافل، لأن الطريق إلى علاقةٍ سليمةٍ مع الله تمر من سلامة العلاقة مع الناس، لا من كثرة الشعائر.
ثمة ضرورتان، إذن، لسلامة إسلام المرء: أن تُقام العلاقة مع الله على أساس المحبة، لا الطمع أو الخوف، وأن تقام العلاقة مع الناس على أساس المحبة، لا تبادل المصالح، أي أن سلامة الإسلام رهن بسلامة القلب وصفائه. ولهذا، بالضبط، تمر الطريق إلى محبة الله من محبة الناس، فلن يبلغ المرء محبة الله، ما لم يكن قلبه سليماً في علاقته مع الناس، ولو صام الدهر، واعتمر في كل رمضان.
ربما يكمن في مثل ذلك الفرق بين الإسلام والإيمان. الأول محكوم بظاهر الأفعال من شعائر وممارسات، أما الثاني فمحكوم بباطنها ونيّة صاحبها. تتوقف مجتمعاتنا اليوم عند الإسلام، وتقصر عن الوصول إلى الإيمان، إذ تمارس دينها على أساس المقايضة مع الله، ومع الناس، لا على أساس المحبة. ولن يفلح أمر المقايضة مع الله، أبداً، لأن لا حاجة له تعالى بنا وبشعائرنا و"طقوسنا". ويتجلى ذلك، مثلاً، في إخفاق فكرة "استجلاب نصر الله" في زماننا، فثمّة قادة وسياسيون اتخذوا الإسلام شعاراً، لكنهم لم ينالوا نصر الله، وذلك طبيعي ومنطقي، لأن الله يتولى المؤمنين الذين يحبهم ويحبونه، لا الذين يعبدونه ليظفروا بنصره.
يبقى أن مثل هذا التعامل المادي مع الإسلام هو الذي جرّ الإسلام إلى مواجهة حضارية، لم يطلبها، مع العلوم الإنسانية والأنماط المجتمعية التي توصل إليها الإنسان، بحكم تجربته التاريخية وحاجاته الحضارية المعاصرة، بشكلٍ بدا معه الإسلام نمطاً ماضوياً تاريخياً غير قابل للتجدد، وبصورة تتعارض مع قاعدة صلاحيته لكل زمان، باعتباره الدين الخاتم الذي جاء للناس كافة. انظروا كيف فعل استعمال المسلمين الإسلام استعمالاً مادياً، بحضوره وفعاليته في التاريخ البشري والحضارة الإنسانية، وكيف أن فعالية الإسلام في المستقبل ستكون رهناً بإعادته إلى طبيعته الروحية.