هل يمكن لشخص ما أن يكون روائياً دون أن ينشر رواية واحدة، أو حتى قصة قصيرة واحدة؟ نظرياً، يمكن ذلك، لأن كثيراً من الأشخاص يحملون في "رؤوسهم" أكثر من رواية، ولكن في معظم الأحيان لا يستطيعون نقل أفكارهم إلى الورق.
أحد أصدقائي على مقعد الدراسة، كان يحمل في رأسه ثلاث روايات على الأقل، بشخصيات رئيسة وثانوية، حبكة مدروسة في أدقّ تفاصيلها، ونهاية لا يمكن أن يتوقّعها حتى أكثر القرّاء خبرة ودهاء.
وكان مستعداً دائماً، أثناء خروجنا في الصباح الباكر للدراسة في حقول الزيتون قبل الامتحانات العامة، لأن يروي القصّة بحماس كان يجعلنا نعيشها وكأننا أبطالها، ويكتشف خلال ذلك، صدفة أو عن دراية عميقة بفن الرواية، حلولاً لبعض المسائل التقنية التي صادفته أثناء التفكير بها، أو إضافة بعض التفاصيل هنا وهناك.
وكان يصرّ على أنه سيكتبها بعد نيل الشهادة الثانوية والهجرة إلى أحد البلدان الأوربية، لأن موضوع الرواية، فيما لو كتبها وتمّ نشرها، لغيّبته في زنزانة لا ترى الشمس لسنوات طويلة.
في الحقيقة، كان من العسير الشكّ في كلامه، لكونه طالباً مميّزاً ومتفوّقاً، ولكن بدلاً من أن يمتهن الكتابة ويتحفنا بأعماله الأدبية تلك، انتهى به الأمر ليمارس مهنة مقاول بناء.
وبعودتنا إلى السؤال المطروح في بداية المقال، نجد أن هنالك حالات استثنائية يشتهر فيها الكاتب ويصبح نجم الأمسيات واللقاءات الأدبية لمجرّد أن أفصح عن نيّته في كتابة رواية، أو أنه بصدد ابتداع شخصية مفتش يوازي، بل يضاهي شارلوك هولمز في تحقيقاته الجنائية، وهذا ما حدث مع إيطالي مقيم في إنكلترا.
"صباح الخير، اسمي سلفاتور فراسكا، أنا روائي ولكنني لم أنته بعد من كتابة رواية واحدة"، قدّم نفسه للجمهور في لقاء يحمل عنوان "قضية فراسكا". الإدارة كانت قد بعثت له دعوة رسمية لحضور معرض الكتاب في ميلانو، بعدما تعدّت شهرته ضفاف التايمز ووقّع عقداً (منذ سنوات) مع دار نشر إسبانية معروفة.
وسلفاتور فراسكا، 47 عاماً، لا ينفي كونه كاتباً غير ناضج، ويعتقد ﺒ "مواكبة المعاصرة"، وأنه عندما يصل إلى نهاية الرواية، يكتشف أنها لم تعد "معاصرة"، أو أنها لا تتماشى مع ما أنجزته التكنولوجيا الحديثة في فترة قصيرة، فيهملها. ثم هنالك الخوف من مواجهة الفشل، ويعتبر بأن ما يفعله هو نوع من البقاء على السطح لتفادي الغرق، وأنه سينجز عمله في يوم ما: ليس المهم إنهاء الرواية، بل إكمالها. إنها "الأوتوبيا" حسب إدواردو غاليانو: الغروب الذي يبتعد دائماً خطوة أخرى.
في هذه الأثناء، لا تبارحه أفكار جديدة، فهو يعمل الآن على سبعة كتب، من بينها ثلاثية حول المفتش فالكونارا الذي ينحدر من عائلة صقلّية عريقة انتكست أحوالها ومكانتها الاجتماعية. ومُفتّشه هذا لا يملك أيّة موهبة في التحقيقات ويتعاون مع مفتش في الأرجنتين لحلّ قضية تهمّ البلدين، ويتبادلان المعلومات عن طريق البريد الإلكتروني، بينما شخص غير مؤهل يقوم بترجمة رسائلهما ممّا يخلق جملة من المفارقات المضحكة. بالإضافة إلى ذلك، ابتكر فراسكا شخصية مفتش آخر وأطلق عليه اسم هنري مورغان تيمّناً بقرصان إنكليزي عاش في القرن السابع عشر.
في النهاية، يقول سلفاتور بثقة لا يمكن إلا أن يشوبها بعض الحياء، أنه اكتشف بأنه يجب أن يكون سعيداً لأنه يكتب. خلال كل تلك السنوات زاول أعمالاً لا يطيقها والكلمة بقيت المساحة الوحيدة التي يشعر فيها بالحرية، وربما حان الوقت لأن يضع نقطة وألاّ يعود إلى بداية السطر!