إذا كانت الغاية من السردية التي قدمها رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو حول "النووي الإيراني"، تقديم ذريعةٍ إضافية، تعزّز حيثيات الرئيس الأميركي دونالد ترامب للانسحاب من الاتفاق النووي، فإن النتيجة جاءت خائبة.
وإذا كان الهدف شحن الأجواء الأميركية وتأليبها ضد الاتفاق، فإن المحاولة بدت فاشلة. وفي الحالتين، كان للاستعراض الذي قدمه رئيس حكومة الاحتلال، وقع القنبلة الصوتية لا أكثر في واشنطن.
في الشكل، نجح نتنياهو في إخراج روايته، وربما فرضها كمادةٍ على الصفحات الأولى من الصحف. ساعده في ذلك الإعلام الذي أثار ضجة حولها، بحيث بدت للوهلة الأولى وكأنها ستكون اختراقاً من العيار الثقيل. ولكن أول ما قلّل من أهمية "الوثائق" التي عرضها نتنياهو مساء الإثنين الماضي، كان توقيتُها عشية قرار ترامب حول الانسحاب من الاتفاق النووي أو البقاء فيه، وهو ما رسم علامات استفهامٍ حول حقيقة أمرها وغرضها.
فالتزامن بين عرض "وثائق" نتنياهو واقتراب قرار ترامب، أظهر وكأن القصة مصممة لتزويد البيت الأبيض بحجة قوية تسوّغ قراره بالانسحاب. وثمة من لا يستبعد أن تكون الحبكة قد جرت بالتنسيق بين الرئيس الأميركي ورئيس الوزراء الإسرائيلي. ثم إن المعلومات التي أتى بها نتنياهو، "معروفة منذ سنوات"، كما قال رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي، السناتور بوب كوركر. وحتى وزير الخارجية مايك بومبيو، لم ينكر ذلك، ولو أنه حاول تعويم مزاعم نتنياهو، بالقول إن هناك "آلاف الوثائق الجديدة".
وما زاد من انكشاف اللعبة أن البيت الأبيض، المُستعجل لتوظيف مسرحية نتنياهو، وقع في خطأ كبير، عزّز الشكوك في الموضوع. ففي بيانها الفوري على هذا التطور، قالت المتحدثة الرسمية باسم الرئاسة الأميركية ساره ساندرز، إن "المعلومات الاستخبارية الإسرائيلية الجديدة تثبت أن لدى إيران برنامجاً نووياً صلباً". هرولة فاضحة للاستخبارات الأميركية التي سبق أن أكدت أن طهران "أوقفت" برنامجها النووي بعد اتفاق يوليو/تموز 2015، الأمر الذي اقتضى المسارعة إلى التصحيح من خلال التذرع بوقوع "خطأ مطبعي" في البيان، بحيث جاء بصيغة "أن لدى إيران"، بدلاً من القول إنه "كان لدى إيران برنامج نووي". لكن الاستدراك جاء متأخراً، وضُبطت السقطة في مكانها، وبما كشف عن مدى تلهف البيت الأبيض للعثور على ممسكٍ يبرر به قراره المرتقب بالانسحاب من الاتفاق، ولو أنه لم يحسم أمره نهائياً حتى الآن في هذا الخصوص.
هكذا جاءت هذه المحاولة المفضوحة " لتدين نفسها بنفسها"، على حدّ تعبير الأدميرال المتقاعد جيمس ستافريدس، الذي أضاف أنه إذا كانت الإدارة الاميركية حريصة فعلاً على إبعاد إيران عن السلاح النووي، "فعليها التمسك بالاتفاق لا شطبه"، وإن كان المنع مؤقتاً.
ومن هذا المنطلق، يحذر المتخوفون من أن تؤدي مثل هذه الالتفافات والذرائع الهشة إلى تكرار السيناريو العراقي، الذي بدأ بحملة عن حيازة بغداد مواد نووية وكيميائية وغيرها، ما مهّد لغزوٍ، تبين بعده أن الحديث عن أسلحة دمار شامل بحوزة العراق لم يكن سوى سردية مفبركة.
وتعيد مسارعة الإدارة الأميركية، خاصة في الساعات الأولى، لتبني رواية نتنياهو والترويج لها، التذكير بالمطالعة التي قدمها وزير الخارجية الأميركي الأسبق كولن باول أمام مجلس الأمن عشية غزو العراق 2003.
في تلك الجلسة، أسهب باول في الحديث وعرض النماذج والعينات حول امتلاك بغداد لأسلحة دمار تبرر الحرب على العراق، ليتبين له لاحقاً بأنه وقع ضحية تلفيق نسجه فريق نائب الرئيس الاميركي ديك تشيني ومدير الـ"سي أي ايه" آنذاك، جورج تينت، وقام هو بتنفيذها. بعد حين، اعترف باول بالذنب، وبمرارة. لكن مثل هذا الاعتراف غير وارد في الزمن القائم على التلفيق.