روبرت كوخ... طبيب الاستعمار الألماني في أفريقيا

01 يونيو 2020
ضريحه "غرفة عمليّات" مواجهة فيروس كورونا (Getty)
+ الخط -
على الرغم من أنّ روبرت كوخ قد مات قبل حوالي 110 أعوام، ولكنَّ قيمته المعنويَّة تحملُ اليوم تقديرًا أكثر من أيّ وقتٍ مضى، إذْ إنّ الوكالة الحكومية المركزيّة في مجال مراقبة الأوبئة والأمراض والوقاية منها، تحمل اسمه. معهد روبرت كوخ الذي صار على رأس كلّ لسان في ألمانيا منذ تفشّي وباء كورونا، أصبح مصدرًا لا غنى عنه للمعلومات الدقيقة، ليس فقط في ألمانيا، بل في كلّ أنحاء العالم. يقدّم المعهد المشورة للسياسيين الألمان، ويوفّر بشكل شفّاف معلومات الوقاية للمواطنين من أجل مواجهة الوباء. فعليًا، المعهد يقود الاستراتيجيّة الألمانية في مواجهة كورونا. 

ولو كان روبرت كوخ حيًا، كان سيحبّ هذا الأمر، إذْ لم يكن الرجل بريئًا من الغرور. في 27 مايو/ أيار من عام 1910، عيّن الراحل نفسه رئيسًا للمعهد البروسي الملكي من أجل مواجهة الأمراض المعدية، وطلب دفنه هناك. يقع معهد روبرت كوخ الحاليّ في نفس المكان. صار ضريحه "غرفة عمليّات" مواجهة فيروس كورونا الحالي. ترعرع كوخ في أسرة متواضعة اقتصاديًا، ولد عام 1843، درس الطب وصار لاحقًا أستاذًا في الطب وباحثًا مسافرًا ومستشارًا للحكومة داخل وخارج البلاد، وتوّجت جهوده عندما حصل على جائزة نوبل للطب. كان روبرت كوخ من أبرز الوجوه العلمية الألمانيّة، في الوقت الذي كان فيه البحث العلمي الألماني في ذروته.

آنذاك، أرادت الإمبراطورية الألمانيَّة مكانًا مرموقًا، ليس فقط في مجال البحث العلمي، بل أيضًا في السياسة الدوليّة، كما أعلن مستشار الإمبراطوريّة برنهارد فون بولو بشكلٍ واضح من دون تحفظ في عام 1897. لذلك، امتلكت الإمبراطورية الألمانية مستعمرات، كانت كبراها في القارّة الأفريقيّة. لكن، الدخول إلى القارة الأفريقية لم يكن سهلاً، إذْ تطلب الأمر إجراء كثير من الأبحاث الطبية من أجل مكافحة الملاريا. كانت أفريقيا مكانًا "خطيرًا" من الناحية الصحيّة بالنسبة للأوروبيين، الأمر الذي جعل إقامتهم الدائمة فيها أمرًا مستحيلًا. ولكن، في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، بدأ سباق حقيقي بين الدول الاستعمارية من أجل الهيمنة على القارة الأفريقيّة. وكان الطبّ إحدى الركائز الأساسيَّة في ما يمكّن أنْ يُسمّى بـ "علوم الاستعمار"، وكان روبرت كوخ ممثلها الأكثر شهرة في ألمانيا. صارت الإمبراطورية الألمانيَّة قوّة استعمارية في وقتٍ متأخّر نسبيًا. لكن، بعد ذلك، أصبحت ألمانيا رابع أكبر قوّة استعمارية في العالم من حيث المساحة. لهذا السبب، أرادت النخب السياسية الاستعمارية الألمانية أن تظهر للقوى الاستعمارية الأخرى "كيفيّة الاستعمار بشكلٍ صحيح وفعّال"، كما يشير الكاتب الألماني، يورغن زيمرير، في صحيفة "دير شبيغل" الألمانيّة.

وكي يكون الاستعمار الألماني حديثًا ومبنيًا على المبادئ العلميّة، كان السكان الأفارقة أكبر منصّة بشريّة من أجل تجريب وإظهار هذه النزعة، إذْ هدف الاستعمار الألماني إلى تنظيم الأفارقة في معسكرات للعمل، وانتشرت الكثير من الأمراض التي هدّدت "التطوّر الاقتصادي" الذي كان الألمان يسمّونه في الدول المُستعمرة، ومن هذه الأمراض مثلاً: الطاعون ومرض النوم. في ذلك الوقت، كان روبرت كوخ في أوج حياته المهنية. في عام 1882، أعلن عن اكتشاف مرض السل. أسّس هذا الاكتشاف شهرته العلميّة وحصل على جائزة نوبل للطب في عام 1905. أثبت كوخ أنّ مرض السل الذي قتل حوالي سبع سكّان إمبراطورية الرايخ الألمانيّة هو مرض بكتيري. لذلك، يعتبر أيضًا من مؤسّسي علم الأحياء الدقيقة، وأبحاث النظافة الطبية.

في عام 1891، تم إنشاء المعهد البروسي الملكي للأمراض المعدية في برلين كمركزٍ أبحاثٍ مستقل يقوم بتدريب الأطباء من أنحاء العالم كافة. صار روبرت كوخ رئيسًا للمعهد، ولكنه قضى أكثر من نصف حياته وهو يسافر، خصوصاً بدءًا من عام 1896. كان كوخ مستشارًا دائمًا لدى الإدارات الاستعماريَّة البريطانية والألمانية التي التزمت بمشورته وموّلت أبحاثه.
وبالنيابة عن الإدارة الاستعمارية الألمانية في أفريقيا، كان من المفترض لكوخ أن يجري أبحاثًا عن مرض النوم الذي أودى بحياة عشرات الآلاف من الضحايا. هذا المشروع، كان قائمًا بدرجة أولى على الحفاظ على السكان الأفارقة كمصدر للعمل وكموردٍ مركزيّ من موارد الاستعمار، على الرغم من أنّ الجيوش الألمانية كانت ترتكب مجازر تطهير عرقي مرعبة في شرق أفريقيا.

وعلى الرغم من التنافس بين القوى الاستعمارية آنذاك في المجال الطبي، إلا أنَّ التعاون العلمي كان حاضرًا أيضًا. "كان الاستعمار مشروعًا أوروبيًا"، يقول زيمرير. لذلك، وجد كوخ وفريقه ما يحتاجون إليه من موارد في الأراضي البريطانيّة، وتحديدًا في جزيرة سيسي في بحيرة فكتوريا. لم يكن كوخ يرغب فقط في العثور على العامل المسبب لمرض النوم، بل أراد إيجاد علاج دوائي للمرض القاتل. وفي سعيه للوصول إلى العلاج، قام كوخ باختبار عامل الزرنيخ "الأتوكسي إل"، وهو عامل شديد السميَّة. في مختبره في بحيرة فكتوريا، جرب كوخ عامل الزرنيخ بجرعات أعلى من المسموح بها في برلين مثلاً. جرّبها بشكل مباشر على السكان الأفارقة من دون أي حسابٍ لخطورة الآثار الجانبيّة المتوقّعة. لم تكن هذه التجارب مؤلمة فقط للمرضى، بل أدت إلى إصابة بعضهم بالعمى، وبعضهم الآخر توفّي، كما تشير المصادر الأكيدة.

ووصف كوخ العمى بأنّه "شيء مؤقّت"، على الرغم من أنّ كل الأدبيات الطبية آنذاك كانت تشير إلى خطورة عامل الزرنيخ، وكان كوخ يعرف ذلك. في الحقيقة، وهذا ما يجب أن يُقال، كان كوخ يعتقد بأنّ قواعد الوقاية والرعاية لا تنطبق على السكان الأفارقة، وكان يتصرّف مع المرضى بإهمال كبير. يقول زيمرير: "اختلطت العنصرية الاستعمارية مع الطموح العلمي!".
واتّخذ كوخ استراتيجيّة غريبة في مواجهة وباء النوم آنذاك، إذْ فرض استخدام هذا العقار ذي التأثيرات الجانبية القاتلة في كلّ المستعمرات الألمانية في شرق أفريقيا. لم يكن يهتم بالشفاء، بل باحتواء الوباء. إذ أظهرت تجاربه أنّ الأشخاص الذي عولجوا بـ "الأتوسكي إل" لم يعودوا ينقلون المرض! أمر كوخ بإقامة معسكرات اعتقال لعزل المرضى، من أجل السيطرة على تفشّي الوباء في مرحلة مُبكرة، وقام بعزل قرى بأكملها في مخيمات، ضد إرادتها وبالقوة. وبما أنّ المرض كان مميتاً، فإنّ منطق كوخ كان يتلخّص بحماية الأصحاء وعزل المرضى، لإيقاف الانتشار وإبقاء القوى العاملة الأفريقية شغّالة تحت إمرة الدول الاستعمارية.

ويختتم الكاتب يورغن زيمرير مقاله متأسفاً بأنّ موقع معهد روبرت كوخ الحالي لا يشرح هذا الفصل اللاإنساني القاتم في حياة كوخ. الاختبار القسريّ للأدوية على المرضى بالضد من موافقتهم. عزل المرضى بالقوة وتركهم لمصيرهم من أجل الحفاظ عليهم فقط كقوّة عمل للاقتصاد الاستعماري. هذه كلها أمورُ يجب أن يعلمها أيّ شخص يلفظ اسم المعهد.
المساهمون