سبق للاتحاد السوفييتي أن جُر إلى سباق تسلّح مع الولايات المتحدة، فأُنهك اقتصاده إلى درجة انهياره بضربة نفطية قاضية. وشكّل تخفيض سعر النفط تلك الضربة التي أجهزت فيها الدول النفطية، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية على الاتحاد السوفييتي، ولم تفده يومها آلاف الرؤوس النووية والصواريخ الباليستية للوقوف على قدميه أو حتى للبقاء حياً.
فهل تقع روسيا ما بعد الاتحاد السوفييتي في الفخ نفسه، خصوصاً وأن سلاح النفط لا يزال قابلاً للاستخدام، أم لديها هذه المرة بدائل، تجعل سلاحها النووي رادعاً ليس فقط لعدوان عسكري عليها بل ولعدوان نفطي؟
للمرة الأولى منذ بداية القرن الحادي والعشرين، تتساوى روسيا مع الولايات المتحدة بعدد حوامل الرؤوس النووية، والرؤوس النووية ذاتها. ذلك ما أعلنت عنه صحيفة "فيدوموستي"، مستندة إلى بيانات وزارة الخارجية الأميركية. وقد انتهت واشنطن إلى هذا الاستنتاج على أساس تبادل البيانات مع موسكو حول الأسلحة النووية الموضوعة في الخدمة في البلدين، في إطار المعاهدة الروسية الأميركية بشأن تخفيض الأسلحة الهجومية الاستراتيجية (ستارت ــ 3)، التي وقّعها في براغ في 8 أبريل/نيسان 2010، كل من الرئيس الروسي السابق ديمتري ميدفيديف، والرئيس الأميركي باراك أوباما، ودخلت حيز التنفيذ في 5 فبراير/شباط 2011.
ووفقاً لرئيس مشروع "الأسلحة النووية الروسية" ، بافل بودفيغ، فإن "روسيا والولايات المتحدة، تعادلتا في مؤشر الأسلحة النووية، بعد أن تم تسليح القوات البحرية الروسية بغواصات نووية من المشروع الجديد (955) مزودة بصواريخ بولافا المتعددة الرؤوس".
وإلى جانب ذلك، بدأت روسيا عملية استبدال صواريخ "توبل ــ إم" ذات الرأس الواحد، لتحلّ محلّها صواريخ "يارس" الثلاثية الرؤوس. وقد أكد بودفيغ أن هذه المعادلة النووية ستستمر إلى ما بعد 2018، موعد التخفيض الثالث من الجانبين للأسلحة النووية، وفقاً لاتفاقية "ستارت ــ3".
ووفقاً لبودفيغ، فإن أياً من الجانبين، روسيا والولايات المتحدة، لن يتمكنا من تحقيق قفزة تحدث تفوقاً في السلاح النووي على الآخر. فقد نقل عنه موقع "نيوزلاند.كوم" قوله إن "في مجال الصواريخ الباليستية، كل شيء كان مصمماً من بداية الثمانينيات، ومنذ ذلك الحين لا ينتظر أحد تحسيناً جوهرياً عليها. ولا ينبغي التفكير بأن أيّا من الجانبين سيتمكن من صنع صاروخ باليستي يكسبه تفوقاً جذرياً على الآخر".
ومما يجدر ذكره أنّ معاهدة "ستارت ــ3" حول التخفيض المتبادل بين الولايات المتحدة وروسيا، لترسانة الأسلحة النووية الاستراتيجية الموضوعة في الخدمة، والتي حلت محل "ستارت ــ 1"، تنصّ على خفض الرؤوس النووية الى 1550، للصواريخ الباليستية العابرة للقارات، و700، لصواريخ الغواصات البالستية والقاذفات الثقيلة.
علماً بأن مدة هذه المعاهدة 10 سنوات قابلة للتمديد 5 سنوات أخرى، بموافقة الطرفين. ويشار هنا إلى أن الطرفين، الروسي والأميركي، أبرما اتفاقيات عدة قبل معاهدة "ستارت ــ 3"، للحدّ من الأسلحة النووية الاستراتيجية.
وتمحورت الاتفاقية الأولى حول التخلّص من الصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى، وقد تم توقيعها في الثامن من ديسمبر/كانون الأول 1987 في واشنطن، من قبل الرئيسين، السوفييتي ميخائيل غورباتشيوف والأميركي رونالد ريغان. ودخلت تلك الاتفاقية حيز التنفيذ في الأول من يونيو/حزيران 1988، وهي غير محددة بمدة زمنية.
إلى ذلك، فقد تمسّكت موسكو، أثناء مفاوضاتها التي انتهت بتوقيع "ستارت ــ 3"، بتخلّي الولايات المتحدة عن بناء عناصر الدرع الصاروخية في أوروبا الشرقية، الأمر الذي التزمت به واشنطن نظرياً لكنها لم تنفذه.
أمّا اتفاقية "ستارت ــ 1" فكانت قد ألزمت واشنطن وموسكو بتدمير جميع الصواريخ الباليستية وصواريخ "كروز" الأرضية التي يتراوح مداها بين500 و5500 كيلومتر، بما في ذلك الصواريخ السوفييتية المنشورة في الجزأين الأوروبي والآسيوي من الاتحاد السوفييتي السابق.
ونتيجة لتميز تلك الاتفاقية بنظام تفتيش ومراقبة غير مسبوق، فقد نفذت بالكامل بحلول شهر يونيو/حزيران 1991. وبالنتيجة، قام الاتحاد السوفييتي بتدمير 1846 صاروخاً، نصفها تقريباً كان منتجاً ولم يكن قد وضع في الخدمة بعد، مقابل 846 صاروخاً أميركياً تم تدميره.
كانت وكالة "إنترفاكس" قد نقلت عن مدير إدارة وزارة الخارجية الروسية لشؤون الأمن ونزع السلاح، ميخائيل أوليانوف، تصريحه في فبراير/شباط الماضي، بأن روسيا قد تنسحب من جانب واحد من معاهدة "ستارت ــ 3"، فقال "لا يُمكن لروسيا إلا أن يقلقها استمرار الولايات المتحدة في بناء درعها الصاروخي دون النظر إلى مصالح روسيا ومخاوفها. مثل هذه السياسة يمكن أن تقوض الاستقرار الاستراتيجي، ويمكن أن تؤدي إلى حالة تضطر روسيا معها لاستخدام حقها في الانسحاب من المعاهدة".
علماً بأن تصريح أوليانوف لم يكن التحذير الأول من نوعه. فقد كان مدفيديف، قد صرّح في نوفمبر/ تشرين الثاني 2011، بأن روسيا يمكن أن تنسحب من معاهدة "ستارت ــ3" إذا لم تأخذ الولايات المتحدة وحلفاؤها موقفها من بناء الدرع الصاروخي في حساباتهم.
وإلى اليوم، وبصرف النظر عن بقاء روسيا ملتزمة بالمعاهدة أم انسحابها منها، فلا تزال الدولة الوحيدة في العالم القادرة على تدمير الولايات المتحدة بقوة السلاح النووي. لكن موسكو تعلم جيداً أن هذه القدرة نظرية وأن الولايات المتحدة تتفوق عليها في نقطة فائقة الأهمية وهي قدرة درعها الصاروخية المنتشرة في أوروبا على اعتراض الصواريخ الروسية من الدقائق الأولى لإطلاقها، إضافة إلى إمكانية استهداف روسيا من قواعد حلف شمال الأطلسي الأوروبية في أوروبا الشرقية.
ومن هذه الزاوية بالذات لا تستطيع موسكو التساهل مع مزيد من تمدد هذا الحلف نحو حدودها، مما يشكل أحد أهم العوامل في موقفها المتصلب حيال أوكرانيا، وربما كان ذلك ما يدفعها إلى التفكير بالعودة إلى إنتاج مزيد من الصواريخ النووية المتوسطة المدى التي يمكن أن تستهدف مواقع الأطلسي في أوروبا.