لا تبدو بسيطة تلك المفارقة التي يقف حيالها الشباب الروسي راهناً، بين الطاعة المطلوبة منهم داخلياً، وبين التمرّد في العلاقة مع الخارج، انسجاماً مع سياسة العصيان التي ينتهجها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
هذه السياسة تركت آثارها على جيل الشباب الذي يرفض، بل يخجله، أن يسمّى جيل التسعينيات المنتمي إلى حقبة الرئيس السابق بوريس يلتسين. الروس يخجلون من تلك الحقبة التي أهينت فيها كرامتهم القومية وتراجع نفوذهم، وكاد بلدهم يتفكك. ولن تجد مَن يمتدح الزمن اليلتسيني سوى الليبراليين الذين تقاسموا تركة الاتحاد السوفييتي، ونهبوا مدخرات مواطنيهم. فهل شباب اليوم مع بوتين أم مع روسيا قوية، وما هو مفهوم الوطنية الروسية بينهم؟
يصعب الجزم بما إذا كان الاستنفار القومي، على خلفية ضمّ القرم والعقوبات الغربية والتصعيد في أوكرانيا، قد وضع شباب روسيا في صف بوتين. النهج حيال أوكرانيا لا يزال موضع تساؤل لدى كثيرين. كما أن ميل الشباب نحو التمرد والمعارضة يظهر كلما سنحت الفرصة، وإنْ بمستوى متواضع.
ولعلّ أبزر مثال على ظهور هذا التمرد، التأييد الذي حظي به المدوّن المعارض أليكسي نافالني، خلال انتخابات عمدة موسكو الأخيرة في مطلع سبتمبر/ أيلول 2013 قبل خروجه من السجن.
خرج الشباب آنذاك في حملة تأييد واسعة دعماً لنافالني وألصقوا اسمه على سيارات العاصمة، ما أدى إلى تقدمه في نتائج التصويت. ولا يجدر هنا نسيان موجة الاحتجاجات الشبابية التي خرجت في ديسمبر/ كانون الأول 2011 دفاعاً عن نزاهة الانتخابات قبيل الانتخابات الرئاسية، واعتقل على أثرها عدد من الشباب المعارضين للكرملين.
في مقال له بعنوان: "عيد التمرّد"، كتب الأستاذ المساعد في قسم التاريخ العالمي والعلاقات الدولية في كلية التاريخ في جامعة إيركوتسك الحكومية، سيرغي شميديت، في موقع "تاس.أناليتكس.كوم"، يقول إنه "في غضون العشرين سنة الأخيرة، أذكر فقط فترة قصيرة واحدة كان يمكن الحديث فيها عن "تسييس الشباب" نسبياً، أي عن اهتمام حيّ وجماعي من قبل الشباب بالسياسة. إنه عام 1999، والأدق النصف الثاني منه المتزامن مع انتخابات الدوما في دورتها الثالثة. أعقبت ذلك فترة لامبالاة شبابية مديدة. واليوم نلاحظ تسييساً جماعياً في الأوساط الطلابية".
ويرجع شميديت أسباب التسيّس الراهن إلى "الحدث الكبير"، أي الدراما الأوكرانية الدامية المستمرة، متوقعاً أن تتشكل بنية سياسية شبابية حول هذا الحدث. ويبدي قلقه من اللعبة السياسية الدولية الخطيرة التي دخلت فيها روسيا والتي يصعب التكهن بنتائجها.
ويعتقد شميديت أن جيل الشباب الروسي الحالي يمكن أن يشكّل هويته بدلالة هذا الحدث الكبير، وأن هناك طلباً اجتماعياً للرد على التحديات السياسية الخارجية والتخلّص من "عار عقد التسعينيات".
ويخلص إلى أن الشباب يؤيدون سياسة بوتين اليوم لأنها تبدو "شبابية" إلى حد بعيد، ويتعاملون معها كأنها "عيد تمرّد" أو انتفاضة ضد القيادة العالمية، في إشارة إلى الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا.
قد تكون مفيدة العودة تاريخياً إلى حركة "ناشي" الشبابية الروسية، والتي تعني "جماعتنا" أو "مَن هم منّا"، وخصوصاً أن تجمعاً شبابياً كبيراً يعقد سنوياً في "سيليغير" تحت اسم "ملتقى شباب عموم روسيا".
هذا الملتقى نظّمته للمرة الأولى حركة "ناشي" سنة 2005 ليقتصر على أعضائها الذين بلغ عددهم خمسة آلاف شخص. وبعد أربع سنوات، فتح اللقاء أبوابه لمشاركة الشباب عموماً، فبات بمثابة مؤتمر كبير للشباب المتميّز. وبلغ عدد المشاركين فيه هذا العام نحو 20 ألف شاب روسي.
الرئيس الروسي، الذي تكررت زيارته لهذا الملتقى في سنوات 2009، 2011، 2012 و2013، زاره أيضاً هذه السنة في 29 أغسطس/ آب الماضي وخاض نقاشاً استمر ثلاث ساعات مع المشاركين فيه.
وبرغم أن الملتقى يعقد في دورته الأخيرة تحت عنوان: "جيل المعرفة" وليس جيل التسعينيات، فإن بوتين تحدّث عن "الذاكرة التاريخية بوصفها أهم مكونات ثقافتنا وتاريخنا ويومنا الراهن". وأضاف: "روسيا بعيدة عن أن تنجرّ إلى نزاعات كبيرة. لا نريد ذلك ولن نفعل. ولكن من الطبيعي أن نبقى دائماً مستعدين لرد أي عدوان يستهدف روسيا. وينبغي على شركائنا أن يدركوا أن من الأفضل لهم تجنّب الدخول في نزاع مسلّح معنا".
وبدا لافتاً الرد الذي تلقاه بوتين من الطالب في أكاديمية ساراتوف الحكومية للحقوق، إيفان غوغونيوك، الذي قال: "ليس عبثاً، كما يبدو لي، نحن جيل المعرفة ونحن على حق تماماً، أن لا نسمّي أنفسنا جيل التسعينيات". وأضاف: "شكراً لأنكم لم تتركوا إخوتنا السلافيين في محنتهم".
لم ترصد مؤشرات "الوطنية الروسية" رقمياً بعد ضمّ القرم مع أنها تبدو في الشارع أعلى من سابقتها التي انتهى إليها مركز "ليفادا" لاستطلاع الرأي العام في أغسطس/ آب 2013، حين عبّر 51 في المئة أنهم لا يفهمون شيئاً في السياسة، و59 في المئة منهم قالوا إنها تشعرهم بالملل.
فسّر رئيس مركز "ليفادا"، أليكسي غراجدانكين، آنذاك، تلك النتائج بقوله إن "الناس يشعرون بالسأم حين يدركون أنه ليس بإمكانهم تغيير شيء في البلاد من خلال الاحتجاجات أو من دونها".
سبق ذلك استطلاع في عام 2011، كشف أن 61 في المئة من الروس لا يتابعون الحياة السياسية في البلاد. وهناك استطلاع آخر أجراه مركز "ليفادا" في أكتوبر/ تشرين الأول 2013، كشف أن مَن يعدّون أنفسهم وطنيين قد انخفضت نسبتهم إلى 8 في المئة خلال 13 عاماً أي منذ تولي بوتين الرئاسة للمرة الأولى.
وبحسب دراسة نشرها موقع "روسيا ما وراء العناوين"، فإن تعريف الروس للوطنية قد تغيّر منذ مطلع هذا القرن. نسبة الذين قالوا إن الوطنية تعني "العملَ من أجل خير البلاد"، انخفضت من 35 في المئة في عام 2000 إلى 21 في المئة عام 2013، بينما استقرت نسبة الروس، الذين عرّفوا مفهوم الوطنية بأنه "حبّ البلد"، عند حدود 60 في المئة.
ورغم أن فكرة "الوطنية الروسية" تقع في صلب سياسة الرئيس الروسي الحالي لكسب الأنصار وشدّ أواصر روسيا، لكن بوتين يكرر في سياقات مختلفة، عبارة: "الروس الأصليين"، بما يترك السؤال مفتوحاً عن مكوّنات روسيا الإثنية والدينية غير السلافية وحقيقة اعتبارها جزءاً من الهوية الروسية الجامعة.