ريبستاين وغارثيادييغو: هناك رؤية واحدة هي رؤية المخرج

08 اغسطس 2018
باز أليسيا غارثيادييغو وأرتورو ريبستاين (العربي الجديد)
+ الخط -
لا يعرف المخرج المكسيكي أرتورو ريبستاين (1943) عدد الأفلام التي أنجزها في حياته، ولا كيف تأتيه الأفكار لإنجازها. يُكرّر أنه يستلهم من حيث يستطيع: من حديثٍ مع سائق سيارة أجرة، أو من أشياء يلتقطها من الشارع. يقرأ خبرًا أثناء تصفّحه الجرائد صباحًا، فيجد نفسه مُبحرًا في عالم الخيال. يحبّ أن يقرأ كثيرًا: "لا أستطيع القول إني قارئ نهم، كبعض الكتّاب الكبار. لكني أعتبر نفسي قارئ عددٍ لا بأس به من الكتب التي مدّتني بالثقافة المطلوبة".

في مقابلة سابقة لي معه، أخبرني عن صعوبة العمل مع شخص يعيش وإياه تحت سقف واحد. في حالته، هذا الشخص هو زوجته، باز أليسيا غارثيادييغو (1949)، مؤلّفة سيناريوهات أفلامه منذ 30 عامًا، وكاتبةً له نحو 20 نصّا سينمائيّا منذ بداية التعاون بينهما في منتصف ثمانينيات القرن الـ20، منها أفلمة رواية "بداية ونهاية" (1993) لنجيب محفوظ (1911 ـ 2006).

تجمعني الأيام بأرتورو ريبستاين مجدّدًا، وهذه المرة مع زوجته الستينية، فأشعر بحاجة إلى معرفة المزيد عن العلاقة المهنية المتبلورة بينهما خلال عقودٍ، خارج الحياة الزوجية: "نعمل معًا منذ أكثر من 30 عامًا. وقت طويل جدًا". يقول هذا وهو يهزّ رأسه. يُضيف: "هذا يعني أكثر من نصف مسيرتي السينمائية. منذ أن بدأنا العمل معًا، لم نعمل إلاّ معًا. لم يشتغل أحدنا من دون الآخر. زوجتي هي الوحيدة التي كتبت لي السيناريوهات، وأنا مخرجها الوحيد. هناك خلافات تقع بيننا. هذا طبيعي. نحن لسنا توأمًا. لكن، ما يساعدنا على تخطّيها هو أنّ لدينا ذوقًا واحدًا. العيش كزوجين ليس سهلاً، إلاّ أنه في الجانب المتعلّق بالعمل، استطعنا مع الوقت تحسين الظروف وتوفير بيئة مريحة. نتّفق على معظم الأشياء، وما نختلف بشأنه نناقشه".



تروي غارثيادييغو أنهما لا يتشاركان وجهة النظر الجمالية نفسها: "نحبّ التناقضات التي تولّد إشكاليات إبداعية كثيرة. من المواضيع التي تلهمنا: المصائب التي يتعرّض لها الناس. نميل أيضًا إلى الذين يعرّضون أنفسهم للخطيئة. مرتكبو الخطايا ملهمون للدراما أكثر من القدّيسين". تتابع ضاحكة وممازحة وهي تُلمِّح إلى زوجها: "قد أقتله إذا استعان بكاتبة غيري. أعتبرها خيانة".

في نظر ريبستاين، لا يمكن لكاتب السيناريو تجاهل الواقع في المكسيك، لكن هناك مستويات عديدة له: "يتوقّف الأمر على أيّ واقع تبحث. هل تريد الواقع السياسي أو الاجتماعي أو الأنثروبولوجي؟ ثمّ عليك أن تجمع هذا كلّه كي تحصل على خلاصة فيها الكثير من السوريالية. المكسيك بلد عجيب جدًا في هذا المجال. لكن، بلا أي شك، اهتمامنا الأكبر منصبٌّ على الأفلام، إلى جانب مراقبة المجتمع والإحاطة به. لذلك، عندما نتحدث عن المكسيك وعمّا يحدث فيها من تطوّرات، يحصل ذلك دائمًا من خلال السينما. إنها الملهمة الكبرى بالنسبة إلينا".

"والأدب"، تضيف باز مقاطعة. أغتنم تعليقها لأسألها: "هل تزورين موقع التصوير عندما يصوّر زوجك؟". تجيب: "طوال الوقت. هذه الطريقة الوحيدة لأتأكّد من أنه لا "يسرق" الحكاية التي كتبتُها (ضحك). أبقى في التصوير وأتفرّج. نادراً ما أعطي رأيي، رغم أنه يسألني عنه. لا يتردّد في طلب التوضيح عندما لا يحصل على جواب كافٍ عن شيء معين". هنا، ينشب خلاف بينهما يفاجئني، مع أنه لا يمسّ الجوهر. فرغم أنهما يعملان معًا منذ أكثر من 3 عقود، لا تزال هناك أمور غير محسومة تشمل حجم مشاركة كلّ واحد منهما في السيناريو. هو يقول إنه يشارك في الكتابة أحيانًا، وهي تقول لا. في النهاية، يتّفقان على أن مشاركته مقتصرة على التعليق، وإبداء ملاحظات على النسخة النهائية، وحذف ما لا يعجبه: "أضيف تدويناتي. أقول: هذا يعجبني وهذا لا يعجبني. لكنّي لا أجلس إلى جانبها ونكتب معًا".

أسأل الكاتبة عمّا إذا كانت تسلّم نفسها خلال الكتابة للتقنيات الإخراجية التي يستخدمها زوجها. تجيب: "نعم. خصوصًا أنه لا يقطع كثيرًا، فيُصوّر مشاهد طويلة مكوّنة من لقطة واحدة. هذا يفرض عليَّ كتابة من نوع معين. لذلك، أفكّر كثيرًا في الحركة وأنا أصوغ القصة. أرتورو يحرّك الكاميرا ويحب هذا جدًا. أعرف جيدًا كيف سيُحرّكها. في البداية، كنت أحسده على لقطاته الطويلة التي أعتبرها أجنحته التي يحلّق بها، فبتّ أقلّده. قلت لنفسي: لمَ لا أعتبر الحوارات أجنحتي".

عن خيار الممثلين، يقول أرتورو ريبستاين إنه يستشيرها من دون أن يلتزم رأيها بالضرورة. سرعان ما يوضحان أن عددًا كبيرًا من السيناريوهات وُضعت لممثلين معينين: "الكتابة لممثل مُعين أسهل"، يشرح ريبستاين. "لأنه لديك وجه ولديك صوت في بالك وأنت تجمع ملامح الشخصية. ولديك جسد كذلك. حتى إذا لم نحصل في النهاية على الممثل بسبب ارتباطاته، فمن الأفضل دائمًا الكتابة وفي بالك شخص معين".




رغم الأعوام المديدة التي أمضتها في العمل مع زوجها، لم تشأ باز أليسيا غارثيادييغو يومًا الانتقال إلى الإخراج والوقوف خلف الكاميرا: "أداتي هي اللغة وليست الصورة. أنا كاتبة. إذا قرّرت اختيار شيء آخر، فستكون الرواية لا الإخراج". فكرة أن أحدهما يُكمّل الآخر تعود مرارًا في كلام ريبستاين: "عليك أن تسأل وعليك أن تستمع. وإلاّ، لا تسل. أحيانًا، أجدني صرت طاغية، وهذا ليس بالأمر السيئ. هذا طبيعي. أنا هو القائد. الأمر أشبه بهرم. هناك رؤية واحدة في الفيلم هي رؤية المخرج. هناك أناس يتعاونون معه لإيصال الفيلم إلى تلك الرؤية. عندما ينجح، الجميع يتبنّون النجاح، أما إذا فشل وكانت النتيجة مخيبة، فوحده المخرج يتحمّل الذنب (ضحك)". تضيف الكاتبة قائلة: "إنه قبطان السفينة. إذا غرقت، هناك مسؤول واحد. غرق "تايتانيك" يتحمّل مسؤوليته القبطان". أسألها: "إذًا، كم في المئة من الفيلم هو فيلمك؟". تجيب: "كلّ شيء. الشخصيات التي تراها مولودة بقلمي". لكن، هل خاب أملها في إحدى المرّات من النحو الذي أُفلِمت به الشخصيات؟ تردّ بالنفي، ذلك أنها ما إن ترى خللاً يحصل من شأنه إخراج الشخصيات من سياقها، حتى تتم مناقشة المسألة منذ مرحلة التصوير، كي لا تصل الأمور إلى درجة الخذلان. كونها دائمًا في التصوير، ما مِن مفاجأة تحدث لاحقًا. وإذا حدث أي تغيير خلال التصوير، فكاتبة النص تبدأ تدريجيًا في التعوّد عليه والتصالح معه، وبالتالي لن تتلقّى صدمة عندما تراها على شاشة كبيرة.

تكشف باز أليسيا غارثيادييغو أن زوجها يُمكن أن يكون خطرًا عندما يغضب ويُكشِّر عن "أنيابه". يوافق هو على هذا التوصيف، ولا يبدو منزعجًا منه على الإطلاق. تضيف: "اسأل بقية أفراد الفريق. نعم، يُمكنه أن يكون شديد الخطورة، وأقيس كلامي عندما أستخدم كلمة "شديد". جميعنا نخاف منه، حرفيًا".

في تكريمه المُقام له في الدورة الـ72 (2 ـ 12 سبتمبر/ أيلول 2015) لـ"مهرجان البندقية السينمائي الدولي (لا موسترا)"، رافقته غارثيادييغو وكانت الأضواء مسلّطة عليهما. هذا يعني له الكثير، خصوصًا مع شعوره المزمن بأن أعماله وقعت في النسيان أو هُمِّشت: "مع هذا التكريم، شعرتُ أني لم أضيّع وقتي في صناعة الأفلام"، يكرّر هذا أكثر من مرة، فأُصرّ من جهتي على أن يشرح لي هذا الإحساس المبالغ فيه. تُرى، ما الذي يجعله يُفكّر أنه لم يأخذ حقه؟ يجيب: "صناعة فيلم في العالم الثالث غاية في التعقيد. أنت تعرف مسبقًا أن فيلمك لن يُوزَّع إلاّ نادرًا، والجمهور قليل ومحدود لهذا النوع من الأفلام. فتنتهي بالقول في داخلك: أنا أنجز الفيلم لنفسي وليس للآخرين. هذا، رغم صعوبته، يوفّر جانبًا إيجابيًا، إذْ لا التزامات لديك حيال جمهور غير موجود. لستَ مُطالَبًا بشيء إذْ لا يوجد أحد يطلب منك أي شيء. لا يوجد إلاّ ذاتي أرضيها. في فرنسا، يقدرونني أكثر بكثير من المكسيك. هذا شعور مريب ومتناقض: أنت تعيش في بلدٍ تنتمي إليه أخلاقيًا ولا قيمة لك فيه. في المقابل، هناك مَن يتمنّى أن تموت كي يحلّ محلك".
دلالات
المساهمون